2018/08/14

بعد انحسار العاصفة


الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدينة المحافظة، فثاروا على صفحات الفيسبوك مهاجمين إياه، معتبرينه قد جاء في سياق هدم البنيان القيمي والأخلاقي لمدينة أبي الأنبياء عليه السلام، بعد أن هدأت تلك العاصفة نحن بحاجة إلى وقفة نراجع فيها أداءنا في هذا الحدث، والذي هو تكرار لأدائنا في أحداث كثيرة مشابهة، ننفعل بها، ونتفاعل معها، ثم تمضي ولا نأخذ العبرة منها.
في البداية يجب أن ننتبه إلى أن هذا المارثون وما شابهه من أنشطة مدعومة من منظمات الـ (NGOS) ليس حدثًا منفردًا، بل هو حلقة ضمن سلسلة متواصلة من محاولات تنشئة جيل يحمل فكرًا بعيدًا عن دينه وعقيدته، وهذا يعني أنه لم يكن الأول ولن يكون الأخير ضمن هذه السلسلة من محاولات الإفساد.
المشكلة التي نقع فيها هي أننا دائمًا نتعامل مع مثل هذه الأحداث بردود الفعل، لا بإنشاء فعل مضاد موجَّهٍ خاصٍّ بنا، وكأني بمن هم وراء هذه الفعاليات يدركون ذلك، فيشغلوننا في إطفاء حريق هنا، ثم آخر هناك، ونبقى لاهثين وراء تلك الحرائق المفتعلة، راكضين في متاهاتها، لا نستريح لنفكر أو نخطط أو نرسم معالم سيرنا.
وخلال ردود أفعالنا، ولأن العاطفة هي التي تحكمنا، وهي عاطفة محمودة، غير أن عدم ضبطها بضوابط الفكر والعقل يجعلها تحمل معها سلبيات عديدة تأتي بعكس ما يراد منها، خلال ذلك تنمو عندنا ممارسات سلبية يفرح بها المخالفون المتربصون، ويشعرون أنهم حققوا جزءًا مما يريدونه عبر اندفاعاتنا العاطفية غير المدروسة، وهل من نجاح لهم أكثر من استقطاب فئة من أبنائنا وبناتنا وإقناعهم بوجود سور حاجز بينهم وبين ثقافة وأخلاق أهلهم وشعبهم، وذلك عبر تنفيرنا إياهم وإساءة معاملتنا لهم؟!
خطابي هنا ليس موجهًا لهؤلاء الذين ينظمون تلك الفعاليات الإفسادية، ولا للمغرر بهم الذين يشاركون فيها، وإنما هو موجه للذين تدفعهم حرقتهم لإنكار هاتيك المنكرات، ولا يدركون أنهم قد يقع بعضهم في منكرات أكبر بسوء طريقتهم في إنكار المنكر.
النقطة الأولى التي يجب أن نقف عندها هي التذكير بأن لإنكار المنكر قواعد يجب مراعاتها، إلا أدى ذلك إلى عكس المقصود منه، فالمقصود الأساس من إنكار أي منكر هو إزالته أو التخفيف منه، فإن أدى فعلنا لزيادته وتجذيره وتقويته توجب علينا مراجعة أدائنا ومنهجنا.
ثم إن مهمتنا – كدعاة – في مجتمعنا هي نفس مهمة الطبيب، توفير سبل الوقاية من المرض، وعلاجه إن حدث، والطبيب لا يلجأ إلى الخيارات العنيفة كعمليات البتر والجراحة إلا عندما لا يبقى غيرها حلًّا للمرض الذي يعالجه، أما نحن فإن الخيارات العنيفة هي أول ما نلجأ إليه في تعاملنا مع أمراض المجتمع الأخلاقية والسلوكية والفكرية، وقد تكون هذه الخيارات عنفًا (لفظيًّا) وليس (حقيقيًّا ماديًّا)، ولكن العنف يبقى عنفًا مهما كانت صورته.
الداعية كالطبيب مطلوب منه أن يكون رفيقًا بمرضاه، حريصًا عليهم، فهو يعمل ليعالجهم لا ليقتلهم، ولذلك حرص النبي  على الحث على الرفق، ولنقف مع نموذج من توجيهاته في ذلك:
دخل مجموعة من اليهود على النبيّ ، فَبدل أن يقولوا له (السلام عليك) قَالُوا: (السَّامُ عَلَيْكَ)، و(السام) هو الموت والهلاك، فقال النَّبيُّ : (السَّامُ عَلَيْكُمْ)، وكانت أمنا عائشة رضي الله عنها حاضرة سامعة فغضبت وقالت لهم: السَّامُ عَلَيْكُمْ يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَعْنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ، فَقَالَ لها : (يَا عَائِشَةُ، مَهْ!)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَمَا سَمِعْتِ مَا رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ؟ يَا عَائِشَةُ، لَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ).
لقد رافق تعاملنا مع منكر الماراثون مخالفات خطيرة وقع كثيرون منا فيها، ومن ذلك:
·        استسهال التكفير؛ فرغم أن نشر الاختلاط والفساد أمر مذموم مدان، إلا أنه لا يصل إلى مرحلة الكفر، ولا يجوز إطلاق الأحكام بتكفير الناس بهذه الطريقة التي يقوم بها بعض الغيورين على دينهم جهلًا.
·        إصدار الأحكام على أناس معينين بأنهم سيدخلون النار وسيحرمون من دخول الجنة، وقد غاب عن هؤلاء أن مفاتيح الجنة والنار ليست بأيديهم، وأن الذنوب التي دون الكفر تحت مشيئة الله، إن شاء غفرها وإن شاء عذب بها، وليستمع هؤلاء المتعجلون إلى هذا الحديث المخيف الذي يجب أن يدفعهم للتوقف عن توزيع مقاعد الجنة والنار:
فقد أخبرنا  (أن رجلينِ في بني إسرائيلَ كانا مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ).
لاحظوا معي هي نفس العبارات التي تدور على صفحاتنا مع عصاة غير كفار من أبناء أمتنا.
يكمل الرسول  حديثه فيقول: (فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ)
وقد علق أبو هريرة رضي الله عنه، وهو راوي الحديث فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
فهل يقبل أحدكم أن يتكلم بما يوبق دنيا وآخرته؟!

وقد يحتج البعض بأنهم لم يقولوا غير ما قاله  كما في حديثه الذي فيه (ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وذكر منهم (الدَّيّوث)، فأقول لهؤلاء:
إن فهمكم للحديث ولمنهج الإسلام فيه خلل عظيم، فالعلماء يذكرون أن هذه الأحاديث التي جاء فيها أن من فعل كذا كفر، أو حُرِمَ من دخول الجنة، تتحدث عن (الفعل) وتهدف إلى ذمّه والتنفير منه، أما عندما يكون الحديث عن (الفاعل) أي الشخص المعين، فحتى نحكم عليه بالكفر أو أنه ليس من أهل الجنة نحتاج أمورًا أخرى، إذ هناك موانع عديدة تمنع من دخول (الشخص المعين) تحت طائلة ذلك الوعيد، فلا بدّ من التحقق من انتفاء تلك الموانع، وهو ما ليس من مهمة الأفراد في الأمة.
كما أن فهمكم لـ (الدّيوث) بحاجة إلى مراجعة، فليس كل من خرجت ابنته أو قريبته متبرجة ديّوثًا، إذ الدّيّوث – كما جاء مفسرًا في بعض روايات الحديث – هو (الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ) والخبث هنا هو الزنا، قيل: ومقدماته أيضًا، وكم من رجل تخرج ابنته متبرجة وقد تقارف المعاصي وهو غير مُقِرٍّ لذلك ولا راضٍ به، بل هو عاجز عن تغييره!
لقد كثر الاتهام بالدياثة هذه الأيام، وليُحَضِّرْ كلُّ من أطلق لسانه في الناس نفسه ليوم القيامة إذ قد يأتيه متّهمٌ بالدياثة ظلمًا فيشكوه إلى الله ويطلب منه حقّه.
إنكار المنكر مطلوب، ولكن الطريقة الأمثل لذلك تكون بنشر الخير والمعروف، وبذل الجهد لتقريب الناس من دينهم، وتذكروا (أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة).
لقد طال المقال، ولعلي أعود لأفصل في المطلوب منا في مقال لاحق بمشيئة الله تعالى.
14/8/2018

2018/05/08

أصحيح أنه (لا يفتي قاعد لمجاهد)


أصحيح أنه (لا يفتي قاعد لمجاهد)
انتشرت على ألسنة كثير من الإسلاميين قاعدة صارت من المسلمات عندهم، وهي قولهم (لا يفتي قاعد لمجاهد)، وصار كثيرون منهم – للأسف – يسيئون استخدام هذه العبارة، حتى صار استخدامها سيفًا مسلطًا من فئة من (الجهلة) و(الأغرار) ضد أهل العلم والوعي والفقه.
وحتى في المواقف السياسية ترى البعض ينبري لمن يدلي برأيه في تلك الأحداث من المخلصين المنشغلين بهموم الأمة، ناقدًا أو ناصحًا، فيُشهر في وجهه هذه القاعدة، ويريد منعه من إبداء الرأي والقيام بواجب النصح.
ليست المشكلة – في نظري – في القاعدة نفسها، فالذي أراه أنها قاعدة صحيحة عندما تفهم في سياقها الصحيح، ولكن المشكلة في فهم هذه القاعدة وتوظيفها (أي تطبيقها على الأحداث التفصيلية).
ولغايات التوضيح سأطرح بعض التساؤلات مع الإجابة عليها:
السؤال الأول الذي يجب الوقوف عنه هو: ما المقصود بـ (الفتوى) هنا؟
الاستفتاء في اللغة يعني السؤال عن أمر أو عن حكم مسألة ما، أما في الاصطلاح الشرعي فهو مقيد بأن تكون تلك المسألة متعلقة بحكم شرعي.
والأصل أن قاعدة (لا يفتي قاعد لمجاهد) تشمل المعنى اللغوي، أي ما هو أعمّ من بيان الحكم الشرعي، وذلك يتضمن ترجيح أحد المباحات.
ومعلوم عند أهل العلم الشرعي أن لكل مسألة حكمًا شرعيًّا عامًّا ينطبق عليها، ففي الجهاد – مثلًا – الحكم الشرعي في إحراق أشجار العدو إن كان في ذلك نكاية بهم وتحقيق مصلحة لجيش المسلمين هو الجواز، والوصول إلى مثل هذا الحكم والإفتاء فيه لا يحتاج أن يكون المفتي فيه (أي المبين لحكم الشرع فيه) من المجاهدين، إذ الوصول للحكم هنا ينطلق من النظر في الأدلة الشرعية، وهي مهمة أهل العلم الشرعي، وهذا النوع من الفتوى لا تنطبق عليه القاعدة التي نتكلم عنها.
ولكنّنا عندما نأتي لتنزيل هذا الحكم العام على واقعة معيّنة فإننا نحتاج لمعرفة مدى تحقيق هذا الفعل للنكاية في العدو وكونه مصلحة للمسلمين، حتى نقوم بتطبيقه، وهذا أمر لا يستطيعه من هو بعيد عن الحدث أو غير مطلع على تفاصيله، وهذا هو الذي تنطبق عليه القاعدة، ولكن يجب الانتباه إلى أن العبرة في جواز الإفتاء (أو إبداء الرأي هنا) هي في الاطلاع على التفاصيل، فلربما كان في ساحة الجهاد من هو قريب منها مكانًا، ولكنه غير مطلع على التفاصيل التي يُتَّخذ القرار بناءً عليها، بينما هناك من هو بعيد عنها مكانيًّا وهو على اطلاع بالتفاصيل اللازمة لإبداء الرأي، فهذا لا يقال له (لا يفتي قاعد لمجاهد).
والسؤال الثاني الذي نقف عنده: من هو القاعد الذي لا يصح له أن يفتي للمجاهد؟
إذ البعض يعتبر كل من لا يحمل السلاح (قاعدًا)، وفي هذا الفهم ما فيه من الخلل، لقد ذكر الإمام الطبري في تفسيره أن (القاعدين) هم (المتخلِّفون عن الجهاد ...، المؤثرون الدعةَ والخَفْض وَالقُعودَ في منازلهم).
ومعلوم – بداهة – أن الجهاد ليس في حمل السلاح فقط، فالطبيب الذي يعالج الجنود في الجيش مجاهد، والطباخ الذي يطعمهم كذلك، والعين الذي يزودهم بالأخبار مجاهد، والواعظ الذي يرفع معنوياتهم، والعالم الذي يفتيهم، كل أولئك وهم يتحملون قسطهم من الجهاد ويسدّون ثغرة من الثغرات مجاهدون وليسوا قاعدين.
والمشكلة عندما تشهر هذه القاعدة في وجه رجال أمضوا معظم أعمارهم في ساحات الجهاد، نعم قد تكون الساحات الخلفية المساندة، ولكن بدونها لم يكن للجهاد العملي أن تقوم له قائمة، فيُتهمون بأنهم من القاعدين، مع أن القاعدين – كما أوضحنا – هم الذين آثروا الخمول والدعة، بينما هؤلاء دفعوا ضريبة مواقفهم، ولا يمنّون بهذا على أحد بل لله تعالى عليهم الفضل والمنّة.
أما السؤال الثالث في هذا السياق فهو: من هو (المجاهد) الذي لا يصح لـ (القاعد) الاعتراض على فتواه؟
(الفتوى) كما أسلفنا هي (إبداء الرأي في مسألة لبيان الموقف اللازم اتخاذه فيها).
ويجب أن يكون واضحًا أنه ليس كل من انطبق عليه لفظ (مجاهد)، سواء كان جهاده مباشرًا بحمل السلاح أم غير مباشر (بالدعم اللوجيستي) يصلح لتؤخذ منه مثل هذه الفتوى، فالفتوى لا تؤخذ إلا من أهلها، وأهلها لا بدّ أن يتمتعوا بتأهيل علمي ومعرفة بالواقع تمكّنهم من بيان الرأي الذي ينبغي اتباعه.
أما أن يأتي (غِرٌّ) حمل السلاح، ولم يصل شواطئ العلم فضلًا عن أن يغوص في بحاره، وليست له في الواقع وظروفه وتوازناته كبير خبرة، بل هو لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، ثم إذا نصحته أو وجهته قال لك لا يفتي قاعد لمجاهد، فَلَعَمري إن تلك إحدى الدواهي.
وكما قال أحد الإخوة الأفاضل ممن اكتوى بنيران النقد لنشره رأيًا له ينتقد فيه بعض إخوانه، وهذا الفاضل من المجاهدين وليس من القاعدين، فهاجمه كثيرون من السطحيين بتلك العبارة، فكتب يقول:
"هذه العبارة من أكثر العبارات التي أضرت بالإسلام، فقد وكلت أمر الإسلام والجهاد لمجموعة من الشباب، وحرمت حركة الجهاد من الإطار الفكري والسياسي، وحتى الإطار الشرعي العميق، لذلك تحولت حركات الجهاد في كثير من البلدان إلى حركات صبيانية تم اختراقها وآذت المسلمين أكثر مما آذت غيرهم، لذلك يجب أن يفتي أصحاب الفتاوي الشرعية والسياسية والاقتصادية، سواء كانوا قاعدين أو مجاهدين، فالفتوى بحد ذاتها جهاد".
ومع موافقتي لغالب ما قال، إلا أنني أعتقد أن الضرر حصل من سوء فهم هذه العبارة، لا منها نفسها.

م. عيسى الجعبري
7/5/2018

2018/04/14

في ذكرى هدم الخلافة،، الخلافة التي نريد


الخلافة التي نريد

تطل علينا هذه الأيام ذكرى قيام (أتاتورك) بإلغاء (الخلافة) وطرد الخليفة العثماني وعائلته، وهي ذكرى أليمة أسقطت قلعة كان المسلمون يأملون أن توفر لهم الوحدة والحماية، وانتهت بتلك الحادثة مرحلة وصفتها الأحاديث النبوية بأنها مرحلة الملك العضوض (الوراثي) في تاريخ الأمة.
ولا شك أن كل مسلم صادق (يتطلع) إلى عودة (الخلافة) التي تسير على منهاج النبوة وتجمع شتات المسلمين في دولة واحدة، ويؤمن بأن ذلك حاصلٌ لا محالة؛ لأنه وعد الصادق المصدوق ص.
ولكن صورة الخلافة المنشودة أصابها بعض الغبش بسبب سوء عرض بعض الذين (ينظّرون) لفكرتها، وللمساهمة في توضيح الصورة وإزالة بعض هذا الغبش ينبغي علينا الوقوف عند بعض الأفكار الأساسية المتعلقة بفكرة (دولة الخلافة). 

الخلافة نظام وليست شخصًا

البعض يختزل (الخلافة) في (شخصٍ) يريدونه اسمه (الخليفة)، فتراهم يتضرعون إلى الله تعالى أن يبعث لهم (خليفة) يحلُّ مشاكل الأمة، ويعيد لها عزّتها، ويتوعدون الأعداء بأنه إذا جاء (الخليفة) فإنه سيفعل ويفعل ويفعل، ويغيب عن هؤلاء أن الخلافة (نظامٌ) وليست (شخصًا)، ومصطلح (الخلافة) مشتقٌّ من كون هذا النظام سائرًا على منهج النظام النبوي، يخلفه في القيام بما أوجبته الشريعة، فهو نظام يسير وفق منهج النبوة، وعليه فلو جاء رجلٌ قوي وتمكن من الحكم وأعلن نفسه (خليفة) للمسلمين فإنه لن يفلح في حلّ مشاكل الأمة وقيادتها نحو الرفعة ما لم تسانده قوى المجتمع حوله، وهنا نستذكر أن عليًا س لم يستطع حلَّ المشاكل التي أحاطت به، ليس لضعف فيه ولا لانعدام الخبرة، حاشاه ذلك، ولكن لأن كثيرين من الذين كانوا حوله (أركان نظامه) لم يكونوا مساعدين له على ذلك، وقد كان يشكو من عصيانهم فيقول لهم: (أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان)، ووضح ذلك بقوله (لا رأي لمن لا يطاع).
وقد روي أن أحد أتباعه سأله، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي بكر وعمر انطاع الناس لهما، والدنيا عليهما أضيق من شبر فاتسعت عليهما ووليت أنت وعثمان الخلافة ولم ينطاعوا لكما، وقد اتسعت فصارت عليكما أضيق من شبر؟
فقال له عليٌّ س: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي أنا اليوم مثلك وشبهك!

الخلافة مضمون وليست شكلًا أو اسمًا

وهناك من يركّز على اسم (الخلافة) بدون أن يقترن ذلك عنده ببيان المضامين المستهدفة، وهذا التركيز على الاسم ترك عند كثيرين من عامّة الناس انطباعًا يجعل أهمية (اسم) النظام الذي نريده أكثر من أهمية (مضمونه)، وكأني بهؤلاء الذين يركّزون على (الاسم) ويهملون الحديث عن (المضمون) قد ظنّوا الاسم أمرًا مقدّسًا.
لقد جاءت الأحاديث التي وردت فيها الألفاظ المتعلقة بالخلافة، مثل: (خلافة) و(خليفة) و(خلفاء) في سياق يوحي بأن المقصود منها الوصف والإخبار، لا إنشاء اسم يلزم المسلمين استخدامه ولا يجوز لهم مخالفته، وليس معنى كلامي أن نعزف عن استخدام مصطلح (الخلافة) و(الخليفة)، فهو مصطلح استخدمه الرسول ص، بل المقصود بيان جواز استخدام لفظ آخر لوصف من يتولى الإمامة في الدولة الإسلامية.
ويبقى المهم أن تكون حقيقة من يتولى أمر الأمة موافقة لما يريده الله منه، من إقامة شرع الله، وشرع الله لا يقتصر على إقامة الحدود، والتي رغم أهميتها ليست سوى جزءٍ صغير من شرع الله تعالى، والذي يندرج تحته العناوين الكبرى لمقاصد الشريعة، كإقامة العدل، ونشر الإحسان، وتكريم الإنسان، والحفاظ على الحرية.

الخلافة لا تعني أن المشاكل سيتم حلها بكبسة زر

وبعض الذين يتمحور حديثهم عن (الخلافة)، يوهم حديثهم – بقصد منهم أو بغير قصد – أن مشاكل الأمة ستحل كلها عند إعلان دولة الخلافة، فالأمة ستنتصر، وتعود لها عزتها، وينتعش اقتصادها، ويزول الفقر بين أبنائها، ويعيش أهلها في رخاء وسعادة وراحة بال ... الخ.
ولا شكَّ أن ذلك – كله أو بعضه – يمكن أن يحدث، ولكن ليس لمجرد إعلان دولة تسمى دولة الخلافة، بل سيحدث عندما تقوم تلك الدولة وتأخذ بالأسباب التي جعلها الله طريقًا للوصول إلى هذه النتائج.
ونريد هنا أن لا ننسى أن الأمة مرّت بمراحل عديدة كانت تحت نظام (الخلافة) ولكنه لم يكن نظام الخلافة الراشدة التي على منهاج النبوة، فتعرضت لهزائم وانتكاسات، وتشرذمت وسيطر الأعداء على مناطق شاسعة منها، وانتشر الفقر عندما كان من يزعمون أنهم (خلفاء) يتعاملون مع أموال الأمة كأنها ميراث آبائهم.
وحتى في زمن الخلافة الراشدة، فقد كانت الأمة تمرُّ بمراحل معاناة وشظف ومكابدة، كما حدث في عام الرمادة عندما انتشر القحط أثناء خلافة عمرس، وهذه الأمور من الأمور الطبيعية في هذه الدنيا التي جعلها الله دار امتحان وابتلاء، لا دار استقرار وجزاء.
يجب أن يكون هدفنا الأول عندما نسعى لإعادة إحياء الخلافة أن نطيع أوامر الله تعالى، التي فرضت علينا أن تكون حياتنا كلها سائرة وفق منهجه الذي شرعه لنا، بما فيها نظام الحكم وأمور السياسة، أما أن نروّج لفكرة أن الهدف استجلاب المنافع الدنيوية فإننا سنقع في ورطة حيت تقوم تلك الدولة، ويجد العامة من الناس أنها لم تحقق لهم (الجنة) التي وعدوا بها، وهي لن تحقق ذلك في بداياتها؛ لأنها ستكون منشغلة في تثبيت أركانها ومحاربة أعدائها. 

متى سقطت الخلافة؟

والنقطة الأخيرة والمهمة في هذا السياق أن البعض يركّز على أن الخلافة سقطت عندما ألغاها (أتاتورك) وطرد الخليفة العثماني، ويساهم الاحتفاء بذكرى سقوط الخلافة هذه الأيام في ترسيخ هذا المفهوم، والذي يوحي لبعض المتصيّدين أن الخلافة التي يسعى إليها العاملون للإسلام هي نسخة من نموذج الدولة العثمانية أو الدول التي سبقتها كدولة العباسيين والأمويين، وهنا لا بدّ من طرح هذا التساؤل: متى سقطت الخلافة؟
ولمعرفة الجواب، فإن خير من يخبرنا عنه هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فقد أخبرنا في حديث صحيح ذكر فيه المراحل التي سيمر بها الحكم في الأمة الإسلامية، وكانت وفق ذلك الحديث بعد مرحلة الـ (نبوّة):
·       خلافة على منهاج النبوة
·       يتلوها مُلكٌ عاضٌّ، أو عضوض، وهو الملك الوراثي.
·       يتلوه ملكٌ جبريٌّ، أي (ديكتاتوي)
·       يتلوه خلافة على منهاج النبوة
وبين لنا في حديث آخر صحيح مدة (الخلافة) التي تسير على منهاج النبوة، فقال ص: (خلافةُ النُّبوَّة ثلاثونَ سنةَ، ثم يؤتي الله المُلكَ من يشاء).
وفي رواية أخرى للحديث (إسنادها حسن) قال ص: (الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وسائرهم ملوك).
وقد نقل ابن حبان عن أبي حاتم الرازي قوله: "مَنْ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: خُلَفَاءُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَإِنْ كَانُوا مُلُوكًا عَلَى الْحَقِيقَةِ".
فالخلافة التي نريد إحياءها، والتي وُعدنا بأنها ستقوم ليست هي التي سقطت قيل نحو (100) سنة، بل هي تلك التي سقطت سنة (41 هـ)، وما بعدها من دول تسمى خلافة على سبيل الاضطرار كما قال أبو حاتم الرازي.
إن الأنظمة التي حكمت الأمة بعد الخلفاء الراشدين كأنظمة العثمانيين وقبلهم العباسيين والأمويين، رغم أنها كانت لها أعمال صالحة، ورغم أنها خير من الأنظمة التي تحكمنا بما لا يقاس، ليست هي الصورة التي نتطلع إليها، إننا نريد خلافة راشدة على منهاج النبوة، ولا نريد نظامًا غير ذلك، وللأسف فإن تكرار الترويج للجانب الإيجابي في ذلك النظام، وهو جانب لا ننكره، دون التنبيه إلى الانحراف الذي كان عن منهج الشريعة قد يترك أثرًا سلبيًّا لدى النخبة المثقفة المطلعة على التاريخ حين تسأل نفسها: هل الذي نسعى إليه هو إحياء نظام فيه كل تلك السلبيات؟!
الوضوح مع النفس، والتفكير بعقلانية، وعدم الانسياق وراء العواطف المجرّدة أمر مهمٌّ لنهتدي الطريق الأقوم في سيرنا لإعادة بناء دولة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية.


2018/04/03

الأحاديث المردودة، المرسل الخفي (الحلقة 20)


الحديث المرسل الخفي

تحدثنا في الحلقات السابقة عن (5) أنواع من الانقطاع الذي يؤدي إلى تضعيف الحديث، ونتحدث اليوم – بمشيئة الله تعالى – عن النوع السادس والأخير، وهو (المرسل الخفي)

ما هو تعريف (المرسل الخفي)؟

المرسل الخفي هو: (أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يلقه، ما لم يسمع منه، بلفظ يحتمل السماع وغيره كـ قال).
وفي هذه الحالة، وفق التعريف، فإنّ راوي الحديث والشيخ الذي رواه عنه قد تعاصرا، ولكنهما لم يلتقيا، فلم يسمع الراوي من الشيخ أصلًا، ولكن اللفظ الذي أدّى به الحديث لفظٌ محتمل للسماع، فيمكن أن يتوهم الآخذون عنه أنه سمعه منه، ويظنون الحديث متّصلًا.
وقد أدخل بعضهم في صورته أن يروي عمّن لقيه ولم يسمع منه مطلقًا، وعليه فينبغي أن يكون تعريف الحديث المدلّس تدليس إسناد بأنه (أن يروي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه، موهمًا أنه سمعه منه) وأن يكون تعريف المرسل الخفي بانه (أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه مطلقًا، ما لم يسمع منه، بلفظ يحتمل السماع وغيره كـ قال)

ما علاقة المرسل الخفي بـ (المدلّس)؟

ذكرنا في تعريف الحديث المدلَّس تدليس إسناد أنه (أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه).
فالنوعان يجتمعان في أن الرواية في:
·      أن الراوي لم يسمع ممن يروي عنه هذا الحديث.
·      أن الرواية جاءت بلفظٍ يوهم السماع.
ولكنهما يختلفان في أن الراويين في الحديث المدلّس قد التقيا، بينما في (المرسل الخفيّ) تعاصرا بدون أن يلتقيا أصلًا.
وقد عرّف بعض العلماء – كـ (ابن الصلاح) في مقدمته الحديث المدلّس تدليس إسناد تعريفًا يشمل معه المرسل الخفيّ، فقال في تعريفه:
هو (أن يروي عمَّن لَقِيَهُ ما لم يسمعه منه، مُوهِمًا أنَّه سَمِعَهُ منه، أو عمَّن عاصره ولم يَلْقَهُ، مُوهِمًا أنَّه قد لَقِيَهُ وسمعه منه).
وقد ذهب ابن حجر وتبعه المتأخرون بعده إلى التفريق بينهما بما ذكرناه، فجعلوا المدلّس مختصًّا بما اجتمع فيه المعاصرة واللقاء، والمرسل الخفي بما توفر فيه المعاصرة دون اللقاء.

ما الفرق بين المرسل الخفي والمرسل الظاهر؟

لفظ الإرسال يدل على (إطلاق) السند، وعدم تقييده براوٍ معروف، والمعتمد في تعريف (المرسل) أنه (ما سقط من آخر إسناده مَنْ بعد التابعي) أو بصيغة أخرى أنه (أن يقول التابعي قال رسول الله ص).
وهذا هو الإرسال الظاهر، ومعنى كونه ظاهرًا أن الأمر فيه لا يلتبس على أهل العلم، فعدم التقاء التابعي بالرسول ص أمرٌ ظاهر، ولذا فلا يصعب استنتاج وجود (انقطاع) عند وجود رواية مباشرة من التابعي عن الرسول ص.
وقد أطلق بعض العلماء لقب (المرسل) على كل حديث فيه انقطاع، وإن كان هذا ليس المعتمد في علم المصطلح بعد استقراره.
أما (المرسل الخفي) الذي نحن بصدده فإن الراويين فيه قد (تعاصرا) ولكنهما لم يلتقيا، ومن هنا يأتي (الخفاء) الذي فيه، إذا قد يتوهم الناظر في السند أنهما التقيا لوجود المعاصرة بينهما.
أو أنهما التقيا ولم يسمع الراوي من المروي عنه شيئًا من الحديث على من اشترط المعاصرة وعدم السماع، ولم يشترط عدم اللقاء.

كيف يُعرف المرسل الخفي؟

تعرف عدم الملاقاة بين الراويين بـ
·      أن يخبر هو بنفسه عن ذلك
·      أو أن يجزم إمامٌ مطّلعٌ بذلك، وهم يجزمون بذلك بناء على تواريخ مواليد ووفيات الرواة، وعلى ما وصلهم من أخبارهم.
ومن الأمثلة على الطريقة الأولى (إخبار الراوي عن عدم اللقاء):
1.     أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهو تابعي ثقة، كثير الحديث، كان يروي عن أبيه (عبد الله بن مسعود)، غير أنه لم يسمع منه شيئًا، فقد مات أبوه وهو صغير، وسأله (عمرو بن مرة): أتذكر من عبد الله شيئا؟ فقال: لا، مَا أَذْكُرُ مِنْهُ شَيْئًا.
2.     عمر مولى غفرة بنت رباح يروي عن أنس بن مالك، ويروي عن ابن عباس، ولم يسمع منهما. فقد أخرج الفريابي في (القدر، ح5) قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ، مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ م قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَالَ: (يَا غُلَامُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَمَّاتٍ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِنَّ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، اعْرِفِ اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ ... الخ الحديث).
ثم نقل الفريابي أنه سَمِع إِسْحَاقَ يَقُولُ: قَالَ عِيسَى: قُلْتُ لِعُمَرَ: أَسَمِعْتَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ م قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتُهُ.
وقد قال عنه (ابن سعد): كان ثقة كثير الحديث ليس يكاد يسند وكان يرسل حديثه.
ومن الأمثلة على الطريقة الثانية (جزمُ إمام مطّلع بعدم اللقاء)
1.     أن (محمد بن المنكدر)، وهو تابعي إمام ثقة، يروي عن أبي هريرة وعن عائشة وعن غيرهم من الصحابة، وقد نص الأئمة على أن روايته عن أبي هريرة وعن عائشة مرسلة، مع أنه عاصرهما، لكنهما ماتا وهو صغير، فقد مات أبو هريرة قبل سنة (60 هـ) بقليل، وماتت عائشة سنة (58 هـ)، بينما ولد ابن المنكدر نحو سنة (54 هـ)، وتوفي سنة (130 هـ) وعمره (76 عامًا).
2.     الحسن البصري، الإمام المشهور، يروي عن علي بن أبي طالب س، ولم يسمع منه مع أنه لقيه، وقد سئل أبو زرعة االرازي: هل لقي الحسن أحدًا من البدريين؟ فقال: رآهم رؤية، رأى عثمان بن عفان وعليٍّا. فقيل له: هل سمع منهما حديثا؟ قال: لا، وكان الحسن البصري يوم بويع لعلي س ابن (14) سنة، ورأى عليًّا بالمدينة، ثم خرج عليٌّ إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، وقال الحسن: رأيت الزبير يبايع عليًّا س.

هل يعتبر ورود الحديث من طريق فيها راوٍ زائد دليلًا على الانقطاع؟

ذكر بعض أهل العلم أن من طرق معرفة (المرسل الخفي) أن يَرِدَ الحديث من بعض الطرق بزيادة راوٍ بين الراويين المظنون الانقطاع بينهما.
والحكم على الحديث بأنه منقطع من خلال هذه الطريقة مسألة مختلفٌ فيها بين العلماء، لأن زيادة الراوي كما قد تدلُّ على وجود الانقطاع، فإنها قد تكون من باب (المزيد في متصل الأسانيد)، ولذلك لا يحكم في هذه الصورة بحكم كلي جازم؛ لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع.
و(المزيد في متصل الأسانيد)، هو أن يزيد الرَّاوي في إسناد الحديث رجلًا أو أكثر وَهْمًا منه وغَلَطًا.
وعليه فعندما يرد حديث من طريقين، وفي إحداهما زيادة راوٍ بين راويين متعاصرين، فينبغي البحث هل تدلُّ هذه الزيادة على وجود انقطاع في السند الأقصر، أم على وجود خطأ أو وهمٍ في السند الأطول.
ومثاله
حديث أبي ذر س عن الرسول ص قال (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، أما الثلاثة الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رءوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح الله له. والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم)
فهذا الحديث:
·      روي (عن منصور بن المعتمر، قال سمعت ربعي بن حراش، يحدث عن زيد بن ظبيان، رفعه إلى أبي ذر ....)
·      وروي بإسقاط (زيد بن ظبيان) من السند، فقد روي (عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي ذر...)
و(ربعي) هذا تابعي ثقة من خيار الناس، وقد سمع من عمر س، ولكن أهل هذا العلم نصُّوا على أنه لم يسمع من أبي ذر، مع أن أبا ذرٍّ مات بعد عمر، ولذلك حكموا على السند الذي سقط فيه اسم (زيد بن ظبيان) بأنه منقطع، ويكون من باب المرسل الخفي؛ لأن ربعيًّا وأبا ذرٍّ كانا متعاصرين.
أما المثال على زيادة رجل في السند ولا تدل على الانقطاع، فمثالها:
ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: (جدال في القرآن كفر).
فقد روي الحديث (عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة)
كما روي (عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة) بزيادة (عمر بن أبي سلمة) بين سعد وأبي سلمة.
وقد نصّ أهل العلم بهذا الشأن أن زيادة عمر هنا من باب (المزيد في متصل الأسانيد) وأن الحديث صحيح من رواية (سعد عن أبي سلمة) مباشرة.
وعلماء الحديث يحكمون بأن السند الناقص صحيح وليس فيه انقطاع استنادًا إلى قرائن تفيدهم غلبة الظنّ بذلك، منها أن يكون راوي السند الذي فيه حذف للراوي الزائد قد صرح بأن الراوي  روى عن شيخه بلفظ يفيد اتصال السماع، كـ (سمعت) و(حدثني) و(أخبرني)، وليس بالعنعنة، وأن يكون راوي السند الناقص أتقن من راوي السند الزائد، وهكذا.
ومدار المسألة – كما قال السخاوي – "على غلبة الظن، فمهما غلب على ظن الناقد أنه الراجح حكم به".
ما حكم المرسل الخفي؟
(المرسل الخفي) نوع من أنواع الحديث المنقطع، وهذا يقتضي أنه ضعيف؛ لنفس السبب في بقية أنواع المنقطع، وهو أن كون الراوي (المفقود من السند) مجهولًا غير مذكور أو معروف، يجعل هناك احتمالًا أن يكون راويًا ضعيفًا لا يحقق شروط الصحة من العدالة والضبط.

2018/03/28

من وحي غزوة تبوك


كن أبا خيثمة
إن لم تكن عثمان، فلا أقل من أن تكون أبا خيثمة.
أما عثمان فهو ذو النورين أمير المؤمنين س، لما نادى منادي رسول الله ص للتجهز إلى جيش العسرة، خرج بنفسه في الجيش، وبذل ماله لتجهيزه، حتى قال فيه رسول الله ص (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ).
نعم، الأصل والمطلوب منك أن تكون مبادرًا كـ (عثمان)، لا تركن إلى الدنيا، ولا تغريك أثقال الأرض.
ولكن أينا لديه من الإيمان أن يكون كـ (عثمان)؟؟
أينا يكون ممن يسمع نداء (انفروا في سبيل الله) فلا تشدّه أثقال الأرض؟؟
لا أزعم أن أمثال هؤلاء مفقودون، ولكنهم نادرون، أما نحن فأثقال الدنيا تجذبنا، اثّاقلنا إلى الأرض، وغرنا متاع الدنيا، ونسينا أن متاع الحياة الدنيا في الآخر قليل.
ولكن الفرص لا تنتهي، فإن لم تكن كـ (عثمان) فيمكنك أن تكون كـ (أبي خيثمة) تستدرك ما فاتك، وتلحق بالركب.
أتدرون ما هي قصة أبي خيثمة.
كان أبو خيثمة من الأنصار، من صحابة رسول الله ص، ولما خرج جيش المسلمين إلى تبوك، في الغزوة التي سميت غزوة العسرة لما رافقها من مشقة وظروف قاسية، فقد جاءت في وقت حرٍّ شديد، وحالٍ ضيّق، وكان العدو فيها دولة عظمى، بعيدة الديار، فتخلف من في قلبه ضعف عن الخروج مع رسول الله ص، وكان أبو خيثمة ممن تخلف.
بعد أيام من مسير الرسول ص إلى تبوك، رجع أبو خيثمة إلى منزله في يوم حارٍّ، فدخل حائطه والنخل مدللة بثمرها، وكانت امرأته مختضبة متزينة، وقد رشّت له العريش بالماء لتبرّده له، وهيأت له طعامًا وماءً باردًا.
نعم كانت زينة الحياة الدنيا حاضرة عنده، وأثقال الأرض تجذبه نحوها، ولكنه كان أبا خيثمة، الأنصاري، الذي تربى على مائدة رسول الله ص، والذي وإن غفل لحظة، وأدركه الضعف ساعة، فإنه لا يترك نفسه سادرّة في غيّها.
نظر أبو خيثمة إلى امرأته فأعجبته، ونظر إلى ما أعدّته له، فانتفض، نعم، هكذا هم أهل الإيمان، وصفهم الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
ما الذي تذكره أبو خيثمة حينها؟
لقد تذكر حبيبه ص الذي يسير مع جيش أصحابه عبر الصحراء اللاهبة، تذكر أن هذا المتاع الذي أمامه هو متاع الحياة الدنيا القليل بجانب ما أعدّه الله تعالى في الآخرة لأهل طاعته.
فقال: هلكتُ وربِّ الكعبة، أصبحتُ في ظلٍّ بارد، وماءٍ بارد، وطعامٍ مهيَّأ، وامرأة حسناء، ورسول الله ص في الحَرّ والسَّموم، في عنقه السيف، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما هذا بالنَّصَف.
ثم أخذ قراره من لحظته:
لن يدخل العريش المهيّأ، ولن يتمتع بهذا النعيم الزائل، ولن يركن إلى أثقال الأرض، بل سيسعى لاستدراك ما فات، واللحاق بركب جيش الرسول ص وأصحابه.
أخبر زوجته بذلك، وطلب منها أن تجهّز له زاد رحلته؛ تمراتٍ وإداوة ماء، ثم ركب بعيره وانطلق.
نادته امرأته وهو يرتحل: يا أبا خيثمة هَلُمَّ أكلمْك، فقال لها: والذي نفسي بيده لا ألتفت إلى أهلي، ولا مالي حتى آتي رسول الله ص ليستغفر لي.
ثم خرج يحثُّ الخُطا في طلب رسول الله ص حتى أدركه بتبوك حين نزلها، وعندما دنا من معسكر المسلمين أشرف المسلمون ينظرون إليه، وقالوا: يا رسول الله! هذا راكب من قبل المدينة.
كان لهذا الراكب أن يكون أيَّ واحد ممن تخلفوا عن الجيش في المدينة، أو ممن تخلفوا عنه أثناء الطريق، فقد كان الذين يصيبهم الضعف يتخلفون أثناء الطريق، إذ ليس كل من سلك الطريق سيستمر فيها، ففيهم من سيتعب، ويجبن ويندم.
غير أن الرسول ص قال حينها (كُنْ أبا خيثمة).
تخيلوا، رسول الله ص بنفسه الشريفة يأمل من الله تعالى أن يكون هذا القادم أبا خيثمة، علامَ يدلُّ ذلك؟
ألا يدلُّ على حبّ الرسول ص لأبي خيثمة؟!
ألا يدلُّ على معرفة الرسول ص بمعادن رجاله الذين ربّاهم على يده؟!
ألا يدلُّ على أن الرسول ص كان يدرك أن الإيمان الذي في قلب أبي خيثمة لن يتركه في انجذابه للدنيا وتركه الجهاد؟!
الذين قعدوا عن السلوك في طريق العمل في سبيل الله كثيرون، وكثير منهم هم ممن نحبهم ونحب أن يعودوا لهذا الطريق، وكثير من هؤلاء هم ممن نعرف معادنهم، ونأمل أن لا تخبو جذوة الإيمان في قلوبهم، ألا يشعر كل واحد منا عندما تكون هناك سبيل طاعة برغبة عارمة في أن يكون هؤلاء الذين يحبهم من سالكيه، فتراه يدعو بينه وبين نفسه: (كن فلانًا).   
(كُنْ أبا خيثمة).
وهكذا كان، فقالوا: يا رسول الله! هو والله أبو خيثمة.
وأتى أبو خيثمة يبكي، ولا أدري أكان بكاؤه بكاء الحزن على ما فاته من أجر بتأخره عن الخروج مع الجيش أول مسيره، أم كان بكاء الفرح بأنه استدرك ما فات؟
عاتبه حبيبُه ص، وحُقَّ للمحبّ والمربي أن يعاتب من يحبّ من أتباعه على تقصيرهم لئلا يعودوا للتقصير، وهو عتاب الحريص على عدم تكرار الخطأ، لا عتاب المبكّت اللائم، فقال له: ما خَلَّفك يا أبا خيثمة؟ أولى لك.
(أولى لك)، كلمة كانت العرب تستخدمها للدعاء بالمكروه والتهديد والوعيد، كأنه يقول له: لقد دنوت من الهلكة يا أبا خيثمة.
فقال له أبو خيثمة: كدتُّ يا نبي الله أن أهلك بتخلفي عنك، وتزينت لي الدنيا، وتزين لي مالي في عيني، وكدت أن أختاره على الجهاد، فعزم الله علي بالخروج.
لم يحاول اختلاق المبررات، ولا الاعتذار، بل بكل بساطة اعترف بأن زينة الدنيا خدعته، وأنه كاد يختارها على الجهاد، فاستغفر له رسول الله ص، ودعا له بالبركة والخير.
للأسف فإن كثيرين ممن يتخلفون من أحبابنا يزين لهم الشيطان أن تخلفهم لم يكن لركونهم إلى الدنيا، بل كان بناء على قناعات فكرية يحاولون ابتكار دلائل عليها، أو لفساد وانحراف عند القيادة يعملون على تضخيمه لتبرير قعودهم، وهؤلاء –  الذين لا يعترفون بحقيقة ما دفعهم – للتراجع سيبتعدون أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، حتى يصلوا لمرحلة يقتنعون فيها بما اختلقوه من أعذار ومبررات، وعندها لن يكون طريق العودة عندهم ميسّرًا كما كان عند أبي خيثمة.
كل واحد منا قد يكون مرّ بتجربة كتجربة أبي خيثمة، شدته الدنيا وأقعدته عن العمل، إما في مسيره كله، أو في بعض محطاته، فيا أخي الحبيب، يا من لا زالت نفسك اللوامة التي بين جنبيك تعاتبك على قعودك، ولم ينجح شيطانك في إقناعك بمبررات لذلك، حاول أن تكون أبا خيثمة، فالطريق للالتحاق بركب السالكين مفتوح، والاستدراك ممكن، فـ (كن أبا خيثمة).

م. عيسى خيري الجعبري
28/3/2018

2018/03/25

الأحاديث المردودة، المدلّس (الحلقة 19)


الحديث المدلس

سبق وتحدثنا عن أربعة أنواع من الحديث الذي فقد شرط اتصال السند، وهي: المنقطع، والمعضل، والمرسل، والمعلّق.
موضوع حديثنا اليوم هو النوع الخامس من الأحاديث التي فقدت شرط اتصال السند، وهو الحديث المدلّس.

ما هو معنى التدليس في اللغة والاصطلاح؟

أصل التدليس مشتق من (الدَّلَس)، وهو الظُّلْمة، أو اختلاط الظلام بالنور، ويطلق (التدليس) في اللغة على (كتمان عيب السلعة عن المشتري)، وقد استخدم هذا المصطلح في علم الحديث لأن المُدَلِّسَ حاول كتمان عيبٍ في السند، فكأنه أظلمَ أمرَ الحديث على الواقف عليه.
أما اصطلاحًا، فـ (التدليس) هو : (إخفاء عيب في الإسناد، وتحسين لظاهره).

ما هي أنواع التدليس؟

ينقسم التدليس إلى ثلاثة أقسام، وهي: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية.
أما تدليس الإسناد، فهو:
أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وقد أضاف بعض العلماء – كابن الصلاح في مقدمته – لهذا التعريف أن يروي الراوي عن من عاصره ولم يلقه بلفظ يوهم أنه قد لقيه وسمعه منه.
واعترض عليه آخرون ممن علقوا على كتابه أو شرحوه، كـ (ابن حجر) واعتبروا أن هذه الصورة (رواية الراوي عن من عاصره ولم يلقه) ليست من التدليس، وإنما هي نوع خاص من الانقطاع أطلقوا عليه اسم (المرسل الخفيّ).
وأما تدليس الشيوخ، فهو:
أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.
أي أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
أما تدليس التسوية، فهو:
 رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.

هل من مثال على تدليس الإسناد، مع مزيد توضيح له؟

قلنا أن تدليس الإسناد، هو: أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وفي هذه الحالة فإن الراوي وشيخه قد التقيا، ويمكن أن يكون الراوي قد سمع من الشيخ أو لم يسمع منه، ولكن هذه الرواية الموصوفة بأنها (مدَلّسة) ليست مما سمعه الراوي من الشيخ، ولأن اللقاء قد حصل، والسماع ممكن أو حاصل، فإن عدم ذكر الواسطة بين الراوي والشيخ سيوهم أنه سمعه منه مباشرة، ولكن علماء الحديث كانوا يميزون بين الراوي الذي يستخدم التدليس، ولو بحسن نية، للاختصار مثلًا، وبين من لا يستخدمه.
ومن الأمثلة على تدليس الإسناد من راوٍ دلّس عن شيخه الذي لقيه وسمع منه:
ذكر (علي بن خشرم)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، أن ابن عيينة قال لهم: عن الزهري...، وساق حديثًا.
وكان سفيان يدلّس، ولكنه كان لا يدلس إلا عن ثقة، وكان تلاميذه يعرفون أنه يدلّس، فقالوا له: سمعتَه من الزهري؟ فقال: لا، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن مَعمَر عن الزهري.
فـ (ابن عيينة) سمع من الزهري، وكان من تلامذته المميزين، حتى أن عليًّا بن المديني قال: "ما في أصحاب الزهري أتقى من ابن عيينة".
ولكنه لم يسمع هذا الحديث الذي رواه لتلاميذه منه، وهو عندما قال (عن الزهري) لم يكذب، إذ لم يقل فيه (حدثنا) أو (أخبرنا) أو (سمعت)، ولكنّ تلاميذه كانوا سيقعون في الوهم ويظنون أنه سمعه من الزهري مباشرة، غير أنهم كانوا نجباء عارفين بشيخهم، ولذلك سألوه لما لم يستخدم الألفاظ التي تدل على السماع عمّن سمعه، فأجابهم أنه سمعه من عبد الرزاق عن مَعمَر.
و(عبد الرزاق) الذي ذكره ابن عيينة إمام ثقة في الحديث، وهو صاحب كتاب (المصنف)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، و(مَعمَر بن راشد) ثقة ثبت من تلاميذ الزهري.
وهذا السند (ابن عيينة عن مَعمَر عن الزهري) سند صحيح، وقد أخرج البخاري أحاديث في صحيحه من نفس الطريق.

لماذا كان بعض المحدثين يفعلون (تدليس الإسناد)؟

في البداية يجب أن نشير إلى أن بعض صور (التدليس)، وإن كانت مندرجة ضمنه، إلا أنها لم تكن بقصد التدليس، فقد يسقط الراوي الواسطة بينه وبين الشيخ الذي نقل عنه الحديث اختصارًا، أو لأنه نسي من حدّثه الحديث عن ذلك الشيخ.
ولكن هناك حالات كثيرة كان الرواة يتعمدون فيها تدليس الإسناد، وهناك أسباب عديدة كانت تدفعهم للقيام بذلك، منها:
** ضعف الشيخ الذي تم إسقاط اسمه
فقد يُسقِطُ الشيخ اسم الرواي الذي سمع منه لأنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا عند غيره وهو يعتبره ثقة.
** تأخر وفاة الشيخ أو صغر سنه
فبعض الرواة كان يأنف من أن يروي عن من هو أصغر منه، أو عن من لا زال حيًّا من الرواة.
** توهيم علو الإسناد
أي أن يوهم الناس أن إسناده عالٍ.
** فوات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير.
قد يكون الحديث عن شيخ قد سمع الراوي من الكثير من أحاديثه، وفاته بعضها، فيأنف أن يذكر الواسطة التي تدلُّ على أن سماع هذا الحديث مما فاته.
 هل من مثال على تدليس الشيوخ؟

ذكرنا أن تدليس الشيوخ هو: أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
ومن أمثلة ذلك:
أن الإمام الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) صاحب كتاب تاريخ بغداد، والعديد من كتب الحديث وعلوم الحديث يروي في كتبه عن:
** أبي القاسم الأزهري.
** وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي. 
** وعن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي
وهذه الأسماء الثلاثة جميعها لشخص واحد من مشايخه، كما قال أبو عمرو بن الصلاح.

ما الأغراض الحاملة للرواة على تدليس الشيوخ؟

هناك أسباب عديدة كانت وراء لجوء بعض الرواة لذكر اسم غير مشهور لبعض شيوخهم، ومنها:
** ضعف الشيخ، أو كونه غير ثقة.
فيكون قصد الراوي أن يصعب البحث عن صحة الحديث، إذ لو ذكر اسم الراوي المشهور بالضعف لسارع علماء الحديث لتضعيفه.
** تأخر وفاة الشيخ.
بحيث يكون عدد من الرواة المتأخرين قد شاركوا الراوي في السماع من هذا الشيخ، فلا يحب أن يقارن بهم، كون سماعه كان قديمًا قبلهم.
** صغر سن الشيخ.
بحيث يكون أصغر من الراوي عنه، فيأنف من ذكر اسمه.
** كثرة الرواية عن الشيخ.
فلا يحب الإكثار من ذكر اسم شيخه على صورة واحدة.

ما هي صورة تدليس التسوية، مع مثال عليه؟

قلنا أن تدليس التسوية هو رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.
وصورة ذلك:
أن يروي الراوي حديثا عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف، عن ثقة، ويكون الثقتان قد لقي أحدهما الآخر، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الإسناد عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيسوي الإسناد كله ثقات.
وهذا النوع من التدليس شر أنواع التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة. وفيه غرر شديد.
ومن أمثلة تدليس التسوية
روى (إسحاق بن راهويه) عن (بقية بن الوليد) قال: حدثني (أبو وهب الأسدي) عن (نافع) عن (ابن عمر) أن الرسول ص قال: "لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه".
وقد نقل ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه أن في هذا الحديث علّة قلَّ من يدركها، ذلك أن أصل الحديث هو هكذا:
(بقية بن الوليد) عن (عبيد الله بن عمرو) عن (ابن أبي فروة) عن (نافع) عن (ابن عمر)
فأسقط (بقيةُ بن الوليد) اسم (ابن أبي فروة) من السند، وجعله وكأنه من رواية (عبيد الله بن عمرو) مباشرة عن (نافع)، وهذا هو تدليس التسوية، ثم ذكر (عبيد الله بن عمرو) باسمٍ غير الاسم المشهور له، فقال: (حدثني أبو وهب الأسدي)، وهو هنا لم يكذب، فـ (عبيد الله بن عمرو) أسدي القبيلة، وكنيته أبو وهب، وهذا هو تدليس الشيوخ.
وقد غيّر (بقية) الاسم هنا حتى لا ينتبه من يأخذونه عنه إلى أنه يرويه عن (عبيد الله)، إذ الحديث من طريق عبيد الله معروفٌ أنه يرويه عن (ابن أبي فروة)

لماذا ذمّ العلماء التدليس؟

المدلس في تدليس الإسناد يوهم أنه سمع ممن لم يسمع منه، ولا يكون ذلك غالبًا إلا لعلمه بأنه لو ذكر الذي دلس عنه لم يكن مرضيا.
أما في تدليس الشيوخ فإنه يعدل عن الكشف إلى الاحتمال، فيوعّر طريق الحكم على الحديث.

ما هو حكم التدليس؟

·       (تدليس الإسناد) مكروهٌ جدًّا، وقد ذمَّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له، فقال فيه أقوالا، منها: "التدليس أخو الكذب".
·       أما (تدليس التسوية) فهو أشد كراهة منه، حتى قال العراقي: "إنه قادح فيمن تعمد فعله".
·       وأما (تدليس الشيوخ) فكراهته أخف من تدليس الإسناد؛ لأن المدلِّس لم يسقط أحدًا، وإنما ذكر شيخه باسم له غير مشهور به، والكراهة هنا سببها تضييع المروي عنه، وتوعير طريق معرفته على السامع، وتختلف الحال في كراهته بحسب الغرض الحامل عليه.

ما حكم رواية المدلّس؟

اختلف العلماء في قبول رواية المدلس (الثقة)، والقول الصحيح المعتمد عند الجمهور أن روايته مقبولة إن صرح بالسماع، أي إن قال: "سمعت" أو نحوها، فإن لم يصرح بالسماع لم تقبل روايته، أي إن قال: "عن" ونحوها.

ما حكم الحديث المدلّس؟


الحديث المدلّس من الأحاديث الضعيفة؛ بسبب فقده شرط اتصال السند، إذ قد يكون الراوي الذي تمّ إسقاطه مردود الرواية.

2018/03/20

مقدمة كتاب (هكذا علمني أبي)


هكذا علمني أبي

مقدمة الكتاب
في مثل هذه الأيام قبل عشرين عامًا، وبالضبط بتاريخ 21/3/1997 فارق والدي (خيري بن عيسى بن محمد عيد الجعبري) الحياة، غير أن الشعلة التي كان قد أوقدها في هذه الدنيا لتنير لمن حوله الطريق لم تنطفئ.
كثيرون هم الذين يمرون في هذه الدنيا، ولكن قلةً منهم تترك أثرًا يلمسه الناس بعدهم، وقد كان أبي – رحمه الله – من هؤلاء القلة، فقد كان يسير على ما نصح به أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
هذا الأثر الذي تركه والدي ظهر جليًّا في الذين كانوا حوله، من أبنائه وأقاربه، وفي الذين تعاملوا معه وعرفوه، وإنّ من نِعَم الله تعالى التي لا نحصيها علينا ما خلّفه لنا – رحمه الله – من سمعة طيبة لا زال عطرها يفوح رغم مرور سنين عديدة على مفارقته دنيانا.
ولد أبي سنة 1945 في أواخرها، وكان مولده في مدينة القدس حيث كان والده (جدّي عيسى) يسكن ويعمل، إذ أن جدَّ والدي (الحاج محمد عيد) كان قد انتقل بعائلته من الخليل إلى القدس وأقاموا فيها، ثم بعد نكبة عام 1948 عادت العائلة إلى الخليل.


وقد تلقى والدي أول دروسه في مدرسة الحياة من أبيه وجدّه، رحمهم الله جميعًا، فجدّي (محمد عيد) كان رجلًا قد عرك الحياة، ورغم أنه نشأ يتيمًا فقيرًا إلا أنه كان حكيمًا عاقلًا، ولعلَّ سفره للقتال أيام الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين، حيث غاب نحو (3) سنوات قد ساهم في توسيع أفقه ومعرفته بالناس والحياة، وكان ذا شخصية قوية، وله مهابة يظهر أثرها في من حوله، كما كان متدينًا، ورغم هيبته والرهبة التي كانت تصيب من يراه إذا غضب، إلا أنه كان لطيفًا معنا، وقد توفي سنة 1974، وعمري أقل من (7) سنوات، ولا زلت أذكر عدة مشاهد لي معه، منها مشهد كنت أقوده فيه وأمسك بيده في شارع (السهلة) ذاهبًا إلى مكتب السيارات الذي كان لـ (جدّي عيسى)، وكان قد فقد بصره  في أواخر عمره، وأذكر كذلك مشهده وهو مريض على فراشه في غرفته، ومشهده حين تم نقله إلى المستشفى قبل وفاته، وكان ذلك في سيارة (الجيب) التي كانت لـ (جدي عيسى).
ومن الذكريات التي لا أنساها عنه أننا كنا ونحن صغار نتسابق في من يذهب بالطعام إليه في منزله، فقد كان يسكن هو وجدتي (الحاجّة رابعة) في منزل صغير لهما لا يبعد إلا قليلًا عن منزل جدّي عيسى، وكان الأهل يرسلون لهما من الطعام الذي يطبخونه، فكنا نتسابق أيُّنا يفوز بتوصيل الطعام إلى (سيدي الحج وستي الحجة)، ذلك أنه كان لا يُخلي منزله من حلوى (الحلقوم) المشهورة عندنا في الخليل، ويفوز الذي يأخذ الطعام لهم ببعض حبات هذا (الحلقوم) اللذيذ.
أما جدي (عيسى) فقد ورث الحكمة عن أبيه، وورّثها لوالدي، ورغم أنه قد مر على وفاته (منذ سنة 1989) نحو (28) عامًا، إلا أن سيرته العطرة لا زالت حاضرة بين من يعرفونه ومن سمعوا عنه، فلا أكاد ألتقي بأحد ممن هم في جيله أو جيل والدي ممن عايشوهما إلا ويترحم عليهما ويلهج لسانه بالثناء والدعاء، وقد ترك هو فيَّ أثرًا عظيمًا، إذ كنت أول أحفاده، وحاملَ اسمه، فكان يخصني بعنايته ورعايته، وكثير من الدروس التي تلقيتها من أبي كنت قد تلقيت مبادئها منه رحمه الله.
أما والدي، فرغم أنه لم يكمل تعليمه المدرسي، إذ غادر المدرسة وهو في الصف الأول الإعدادي فيما أظن، إلا أنه أحسن تلقي الدروس من مدرسة الحياة، وساعده على ذلك والده وجدّه، وذكاءٌ فطري وهبه الله تعالى إياه، ولذلك فقد كان مبدعًا في حياته، في تربيته لنا، وسلوكه مع من حوله، وإدارته لعمله.
لقد كان بالنسبة لي أبًا وأستاذًا مربيًّا ومرشدًا، وكلما تقدمت في هذه الحياة وجدت نفسي أستذكر الدروس التي كان يعلّمني إياها وأستحضرها لعلاج مشكلات كثيرة أواجهها، وخلال عملي (الدعوي) كانت تمر بي كثير من المواقف فأجد أن أفضل الحلول لها وأحسن طرق التعامل معها هي تلك التي علمني إياها أبي.
وقد كان لأبي في تعليمه دروسَه منهجٌ جذّابٌ، لم يدرسه في مدرسة أو جامعة، فقد كان يلقي دروسه لنا عن طريق حكاية ممتعة، أو مثلٍ شعبي، وكثير منها كان يعلمنا إياه بالقدوة، وهذه الأساليب هي التي ترسخ المفاهيم والأفكار في نفوس الصغار.
أما عن قصة هذا الكتاب فإني، وخلال وجودي في سجون الاحتلال، كنت ألقي كثيرًا من المحاضرات على شبابنا من أبناء الحركة الإسلامية خلال منهاجنا الثقافي، وكنت حريصًا على معالجة بعض الأخطاء في التفكير والإدارة، وعلى نقل التجارب الإيجابية للأجيال اللاحقة، وأثناء ذلك كنت أستلهم من دروس أبي – رحمه الله – الشيء الكثير، وقد فكرت في الآونة الأخيرة في جمع تلك المحاضرات في كتاب خاص بها، ولما بدأت بتجميع مادته مرت بي بعض المحاضرات التي كان لما استفدته منه رحمه الله أثر واضح فيها، فأحببت أن أُفرد أبرز الدروس الحياتية التي تلقيتها منه في هذا الكتاب تسجيلًا لهذه التجربة، ووفاءً له، ونشرًا للفائدة، ولتعميم هذه الأفكار، والتي أظن أن الكثيرين سيجدون فيها فائدة ومتعة.
لقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه (ح1631) أن الرسول ص قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)، فأحببت أن يكون هذا الكتاب من باب (العلم الذي ينتفع منه) كما أرجو، إذ هو – وإن كان من صياغتي – فإنه من تأليفه وإنشائه.
رحم الله أبي وآباءه، وجزاهم عنّا خير الجزاء.
وأرجو ممن يقرأ هذا الكتاب أن لا ينساه وإيانا من دعوة صالحة، عسى أن يشملنا الله تعالى برحمته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
م. عيسى خيري الجعبري
الخليل
7/ جمادى الآخرة/ 1438 هـ، 6/ 3/ 2017م.
  

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...