2018/03/25

الأحاديث المردودة، المدلّس (الحلقة 19)


الحديث المدلس

سبق وتحدثنا عن أربعة أنواع من الحديث الذي فقد شرط اتصال السند، وهي: المنقطع، والمعضل، والمرسل، والمعلّق.
موضوع حديثنا اليوم هو النوع الخامس من الأحاديث التي فقدت شرط اتصال السند، وهو الحديث المدلّس.

ما هو معنى التدليس في اللغة والاصطلاح؟

أصل التدليس مشتق من (الدَّلَس)، وهو الظُّلْمة، أو اختلاط الظلام بالنور، ويطلق (التدليس) في اللغة على (كتمان عيب السلعة عن المشتري)، وقد استخدم هذا المصطلح في علم الحديث لأن المُدَلِّسَ حاول كتمان عيبٍ في السند، فكأنه أظلمَ أمرَ الحديث على الواقف عليه.
أما اصطلاحًا، فـ (التدليس) هو : (إخفاء عيب في الإسناد، وتحسين لظاهره).

ما هي أنواع التدليس؟

ينقسم التدليس إلى ثلاثة أقسام، وهي: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية.
أما تدليس الإسناد، فهو:
أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وقد أضاف بعض العلماء – كابن الصلاح في مقدمته – لهذا التعريف أن يروي الراوي عن من عاصره ولم يلقه بلفظ يوهم أنه قد لقيه وسمعه منه.
واعترض عليه آخرون ممن علقوا على كتابه أو شرحوه، كـ (ابن حجر) واعتبروا أن هذه الصورة (رواية الراوي عن من عاصره ولم يلقه) ليست من التدليس، وإنما هي نوع خاص من الانقطاع أطلقوا عليه اسم (المرسل الخفيّ).
وأما تدليس الشيوخ، فهو:
أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.
أي أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
أما تدليس التسوية، فهو:
 رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.

هل من مثال على تدليس الإسناد، مع مزيد توضيح له؟

قلنا أن تدليس الإسناد، هو: أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وفي هذه الحالة فإن الراوي وشيخه قد التقيا، ويمكن أن يكون الراوي قد سمع من الشيخ أو لم يسمع منه، ولكن هذه الرواية الموصوفة بأنها (مدَلّسة) ليست مما سمعه الراوي من الشيخ، ولأن اللقاء قد حصل، والسماع ممكن أو حاصل، فإن عدم ذكر الواسطة بين الراوي والشيخ سيوهم أنه سمعه منه مباشرة، ولكن علماء الحديث كانوا يميزون بين الراوي الذي يستخدم التدليس، ولو بحسن نية، للاختصار مثلًا، وبين من لا يستخدمه.
ومن الأمثلة على تدليس الإسناد من راوٍ دلّس عن شيخه الذي لقيه وسمع منه:
ذكر (علي بن خشرم)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، أن ابن عيينة قال لهم: عن الزهري...، وساق حديثًا.
وكان سفيان يدلّس، ولكنه كان لا يدلس إلا عن ثقة، وكان تلاميذه يعرفون أنه يدلّس، فقالوا له: سمعتَه من الزهري؟ فقال: لا، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن مَعمَر عن الزهري.
فـ (ابن عيينة) سمع من الزهري، وكان من تلامذته المميزين، حتى أن عليًّا بن المديني قال: "ما في أصحاب الزهري أتقى من ابن عيينة".
ولكنه لم يسمع هذا الحديث الذي رواه لتلاميذه منه، وهو عندما قال (عن الزهري) لم يكذب، إذ لم يقل فيه (حدثنا) أو (أخبرنا) أو (سمعت)، ولكنّ تلاميذه كانوا سيقعون في الوهم ويظنون أنه سمعه من الزهري مباشرة، غير أنهم كانوا نجباء عارفين بشيخهم، ولذلك سألوه لما لم يستخدم الألفاظ التي تدل على السماع عمّن سمعه، فأجابهم أنه سمعه من عبد الرزاق عن مَعمَر.
و(عبد الرزاق) الذي ذكره ابن عيينة إمام ثقة في الحديث، وهو صاحب كتاب (المصنف)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، و(مَعمَر بن راشد) ثقة ثبت من تلاميذ الزهري.
وهذا السند (ابن عيينة عن مَعمَر عن الزهري) سند صحيح، وقد أخرج البخاري أحاديث في صحيحه من نفس الطريق.

لماذا كان بعض المحدثين يفعلون (تدليس الإسناد)؟

في البداية يجب أن نشير إلى أن بعض صور (التدليس)، وإن كانت مندرجة ضمنه، إلا أنها لم تكن بقصد التدليس، فقد يسقط الراوي الواسطة بينه وبين الشيخ الذي نقل عنه الحديث اختصارًا، أو لأنه نسي من حدّثه الحديث عن ذلك الشيخ.
ولكن هناك حالات كثيرة كان الرواة يتعمدون فيها تدليس الإسناد، وهناك أسباب عديدة كانت تدفعهم للقيام بذلك، منها:
** ضعف الشيخ الذي تم إسقاط اسمه
فقد يُسقِطُ الشيخ اسم الرواي الذي سمع منه لأنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا عند غيره وهو يعتبره ثقة.
** تأخر وفاة الشيخ أو صغر سنه
فبعض الرواة كان يأنف من أن يروي عن من هو أصغر منه، أو عن من لا زال حيًّا من الرواة.
** توهيم علو الإسناد
أي أن يوهم الناس أن إسناده عالٍ.
** فوات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير.
قد يكون الحديث عن شيخ قد سمع الراوي من الكثير من أحاديثه، وفاته بعضها، فيأنف أن يذكر الواسطة التي تدلُّ على أن سماع هذا الحديث مما فاته.
 هل من مثال على تدليس الشيوخ؟

ذكرنا أن تدليس الشيوخ هو: أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
ومن أمثلة ذلك:
أن الإمام الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) صاحب كتاب تاريخ بغداد، والعديد من كتب الحديث وعلوم الحديث يروي في كتبه عن:
** أبي القاسم الأزهري.
** وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي. 
** وعن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي
وهذه الأسماء الثلاثة جميعها لشخص واحد من مشايخه، كما قال أبو عمرو بن الصلاح.

ما الأغراض الحاملة للرواة على تدليس الشيوخ؟

هناك أسباب عديدة كانت وراء لجوء بعض الرواة لذكر اسم غير مشهور لبعض شيوخهم، ومنها:
** ضعف الشيخ، أو كونه غير ثقة.
فيكون قصد الراوي أن يصعب البحث عن صحة الحديث، إذ لو ذكر اسم الراوي المشهور بالضعف لسارع علماء الحديث لتضعيفه.
** تأخر وفاة الشيخ.
بحيث يكون عدد من الرواة المتأخرين قد شاركوا الراوي في السماع من هذا الشيخ، فلا يحب أن يقارن بهم، كون سماعه كان قديمًا قبلهم.
** صغر سن الشيخ.
بحيث يكون أصغر من الراوي عنه، فيأنف من ذكر اسمه.
** كثرة الرواية عن الشيخ.
فلا يحب الإكثار من ذكر اسم شيخه على صورة واحدة.

ما هي صورة تدليس التسوية، مع مثال عليه؟

قلنا أن تدليس التسوية هو رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.
وصورة ذلك:
أن يروي الراوي حديثا عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف، عن ثقة، ويكون الثقتان قد لقي أحدهما الآخر، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الإسناد عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيسوي الإسناد كله ثقات.
وهذا النوع من التدليس شر أنواع التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة. وفيه غرر شديد.
ومن أمثلة تدليس التسوية
روى (إسحاق بن راهويه) عن (بقية بن الوليد) قال: حدثني (أبو وهب الأسدي) عن (نافع) عن (ابن عمر) أن الرسول ص قال: "لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه".
وقد نقل ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه أن في هذا الحديث علّة قلَّ من يدركها، ذلك أن أصل الحديث هو هكذا:
(بقية بن الوليد) عن (عبيد الله بن عمرو) عن (ابن أبي فروة) عن (نافع) عن (ابن عمر)
فأسقط (بقيةُ بن الوليد) اسم (ابن أبي فروة) من السند، وجعله وكأنه من رواية (عبيد الله بن عمرو) مباشرة عن (نافع)، وهذا هو تدليس التسوية، ثم ذكر (عبيد الله بن عمرو) باسمٍ غير الاسم المشهور له، فقال: (حدثني أبو وهب الأسدي)، وهو هنا لم يكذب، فـ (عبيد الله بن عمرو) أسدي القبيلة، وكنيته أبو وهب، وهذا هو تدليس الشيوخ.
وقد غيّر (بقية) الاسم هنا حتى لا ينتبه من يأخذونه عنه إلى أنه يرويه عن (عبيد الله)، إذ الحديث من طريق عبيد الله معروفٌ أنه يرويه عن (ابن أبي فروة)

لماذا ذمّ العلماء التدليس؟

المدلس في تدليس الإسناد يوهم أنه سمع ممن لم يسمع منه، ولا يكون ذلك غالبًا إلا لعلمه بأنه لو ذكر الذي دلس عنه لم يكن مرضيا.
أما في تدليس الشيوخ فإنه يعدل عن الكشف إلى الاحتمال، فيوعّر طريق الحكم على الحديث.

ما هو حكم التدليس؟

·       (تدليس الإسناد) مكروهٌ جدًّا، وقد ذمَّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له، فقال فيه أقوالا، منها: "التدليس أخو الكذب".
·       أما (تدليس التسوية) فهو أشد كراهة منه، حتى قال العراقي: "إنه قادح فيمن تعمد فعله".
·       وأما (تدليس الشيوخ) فكراهته أخف من تدليس الإسناد؛ لأن المدلِّس لم يسقط أحدًا، وإنما ذكر شيخه باسم له غير مشهور به، والكراهة هنا سببها تضييع المروي عنه، وتوعير طريق معرفته على السامع، وتختلف الحال في كراهته بحسب الغرض الحامل عليه.

ما حكم رواية المدلّس؟

اختلف العلماء في قبول رواية المدلس (الثقة)، والقول الصحيح المعتمد عند الجمهور أن روايته مقبولة إن صرح بالسماع، أي إن قال: "سمعت" أو نحوها، فإن لم يصرح بالسماع لم تقبل روايته، أي إن قال: "عن" ونحوها.

ما حكم الحديث المدلّس؟


الحديث المدلّس من الأحاديث الضعيفة؛ بسبب فقده شرط اتصال السند، إذ قد يكون الراوي الذي تمّ إسقاطه مردود الرواية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...