الحديث بين
القبول والردّ
ذكرنا
سابقًا أقسام الحديث من حيث طريق وصوله إلينا، وأنه قد يصل إلينا بطريق يفيد العلم
اليقيني القاطع، وذلك هو المتواتر، وقد يصل إلينا بطرق أقل من ذلك، وهي أحاديث
الآحاد، التي تنقسم، بحسب عدد الرواة في أقل طبقة من طبقات الحديث إلى: مشهور
وعزيز وغريب (فرد).
واليوم
نتحدث عن الحديث بين القبول والردّ.
ما معنى كون الحديث
مقبولًا أو مردودًا؟
السنة
النبوية هي الهديُ الذي جاء به النبي ص، وأمرنا باتباعه والتأسي به فيه، والطريق إلى معرفة هدي
النبي ص وسنته هو ما روي منها عبر (الأحاديث النبوية
الشريفة).
والسنة هي
المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، بعد القرآن الكريم، فالمجتهد يستخدمها
لمعرفة الحكم الذي يريده الله تعالى من عباده في وقائع حياتهم، ومعلوم أن إثبات
الحكم الشرعي يحتاج دليلًا وبرهانًا، وإلا صار من شاء يدعي على الشارع الكريم ما
شاء.
وحتى تصلح
الأحاديث المروية لتكون حجة ودليلًا لإثبات حكم شرعي، فلا بدّ لها من أن تصل إلينا
بطريق يفيدنا العلم، وليس المقصود بالعلم هنا العلم القطعي اليقيني، إذ لو اشترط
ذلك في استنباط الأحكام الشرعية لاستحال الوصول إلى حكم الشرع في غالب أفعال
المكلفين، والمسائل الثابتة بالأدلة القطعية اليقينية مسائل قليلة، وإنما المقصود
(العلم الظني النظري)، وهو العلم المعتمد على غلبة الظن (الظن الراجح)، والذي يتم
التوصل إليه عبر (النظر) في الأدلة والاستنتاج منها.
فالمرحلة
الأولى لكون الحديث مقبولًا للاحتجاج به هي أن يصلنا عبر طريق يفيدنا غلبة الظن
بصدوره عن الرسول ص،
وعليه فـ:
** الحديث المقبول: هُوَ مَا توجد فِيهِ صفة القَبُول من
عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه، وهو ما يصلح للاحتجاج به.
** والحديث المردود: هُوَ
الَّذِي لم يترجح صدق الْمخبر بِهِ، وهو ما لا يصلح للاحتجاج به.
ما هي أنواع الحديث
المقبول؟
ذكرنا أن
الحديث المقبول هو ما وجدت فِيهِ صفة القَبُول من عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه، وهو
ما يصلح للاحتجاج به.
وهذه
الأحاديث هي الأحاديث التي يغلب على الظن أن الرسول ص قد قالها أو فعل ما فيها، وكنا قد سبق
وذكرنا في مراتب العلم (اليقين، الظن، الشك، الوهم)، أن ظنّك الحديث صحيحًا هو أن
يترجح جانب الصحة فيه، أي أن يكون احتمال صحته أكثر من (50%)، فإذا لم يوجد ما يعارضه
وجب قبوله والعمل به.
والأحاديث
التي يغلب على الظنّ صدورها عن الرسول ص هي نوعان:
** الحديث الصحيح.
** الحديث الحسن.
والتفاوت
بينهما في مستوى طمأنينة القلب لاحتمال الصدق، وحتى في داخل كل نوع منهما تتفاوت
هذه الاحتمالية بوجود القرائن وانعدامها.
وبما أننا
بيّنا ما هي أنواع الحديث المقبول، فإن ما عدا هذين النوعين من الحديث يندرج تحت
مسمى (الحديث المردود)، ونعني به الأحاديث الضعيفة، وهي أنواع كثيرة سيأتي شرحها بمشيئة
الله تعالى.
ما هو حكم العمل بالحديث
المقبول؟
أصل صفة
القبول للحديث هو ثبوت (صدق الناقل)، فبثبوت صدقه يغلب على الظن صدق الخبر المنقول؛
فيؤخذ به، ويلتحق به ما وجدت فيه قرائن تؤدي إلى غلبة الظن بصدق الخبر.
وأصل صفة
الردّ ثبوت كذب الناقل له، فيغلب على الظن كذب الخبر؛ فيطرح الخبر ولا يؤخذ به،
ويلتحق به ما وجدت فيه قرائن تؤدي إلى غلبة الظن بكذب الخبر.
والأصل أن
العمل بالحديث المقبول واجب لوجود غلبة الظن بصدق الخبر الذي فيه؛ ونحن مُتَعبّدون
بالعمل بأغلب الظن؛ إذ قامت معظم أدلة الشرع على مجرد الثبوت، دون الثبوت القطعي.
والأصل
كذلك أن العمل بالحديث المردود غير واجب؛ لأن الله لم يكلفنا بالعمل بما يغلب على
ظننا عدم صحته.
لماذا قلنا العمل بالمردود
(غير واجب)، ولم نقل (غير جائز)؟
قلنا أن
الأصل أن العمل بالمردود (غير واجب)، ولم نقل (غير جائز)؛ لأن بعض العلماء أجازوا
العمل ببعض أنواع الحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ضمن شروط حددوها، وهي: أن يكون
ضعفه غير شديد، وأن يندرج الحديث تحت أصل معمول به، وألا يعتقد عند العمل به
ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
كما أنه
نقل عن الإمام أحمد وأبي داود صاحب السنن أنهما كانا يريان العملَ بالحديثِ
الضعيفِ مقدّمًا على القياسِ، وإن كان بعض العلماء تأولوا كلامهما على أن مرادهما
بالضعيف هنا هو الحديث الحسن لنقصان رتبته عن الصحيح.
هل المقبول عند المحدثين
هو المقبول عند الفقهاء؟
تذكير/ سبق
أن نبّهنا أن المصطلحات قد تختلف من علم لآخر.
ذكر الإمام
ابن حجر أن الحديث المقبول هو (ما يجب العمل به عند الجمهور).
وقد اعترض
عليه بأن هذا هو حكم الحديث المقبول لا حدُّه (الحدُّ هنا بمعنى التعريف)، وأن
الصواب في التعريف أن المقبول هُوَ مَا يرجح صدق الْمخبر بِهِ.
ويطرأ
عندنا سؤال: هل كل حديث ثبت صدق المخبِر به، وغلب على ظن المحدّث صحته يصلح
للاحتجاج به في استنباط الأحكام الشرعية؟
الأصل أن
الجواب نعم، غير أن هناك بعض الحالات التي يصح فيه سند الحديث ولا يحتج الفقهاء به
رغم ذلك، منها أن يكون الحكم الذي في الحديث منسوخًا، أو أن يكون معارَضًا بقاعدة
هي أقوى منه، كما عند الفقهاء القائلين بأن خبر الواحد فيما يتكرر وتعم به البلوى
لا يثبت الوجوب دون اشتهار أو تلقي الأمة له بالقَبول.
وعليه
فالحديث قد يكون صحيحًا مقبولًا عن المحدثين، لأن نظرهم متعلق بطرق ثبوت الحديث، غير
أنه عند الفقهاء يكون مردودًا، بمعنى عدم صلاحيته للاحتجاج به، وليس بمعنى عدم
صحته، لأن نظرهم متعلق بصلاحيته للاستدلال به وفق قواعد أصول الفقه.
فالحديث
الذي يحوي حكمًا منسوخًا، وقد ورد من طرق يغلب صدق ناقليها يعتبر حديثًا مقبولًا
عند المحدثين، بمعنى اندراجه تحت مسمى (الحديث الصحيح)، بينما لا يجب العمل به عند
الفقهاء رغم صحته؛ لأن الحكم الذي فيه منسوخ.
هل كثرة طرق الحديث تعني
كونه مقبولًا؟
قلنا أن
الحديث المقبول هو الحديث الصحيح أو الحسن.
ولا يشترط
لصحة الحديث أو الحكم بحسنه تعدد طرقه، فالحديث الغريب (اصطلاحيًّا) أو الفرد، وهو
ما انفرد به راو واحد في إحدى طبقات السند قد يكون صحيحًا مقبولًا، ومن أمثلة ذلك
حديث (إنما الأعمال بالنيات) فهو حديث فرد غريب، من حيث أنه تفرد به عمر س عن رسول الله ص، ثم
تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد
على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.
وقد تتعدد
طرق الحديث، فينطبق عليه مصطلح (الحديث المشهور)، ويكون ضعيفًا مع ذلك، لأن طرقه
وإن تعددت لم يسلم أيٌّ منها من خلل يطعن في صحته، كضعف رواته، أو جهل أعيانهم، أو
انقطاع سنده.
ولكن إذا
ورد حديث من طرق عديدة، وكانت طرقه تجمع الشروط اللازمة لصحة الحديث، فإنه – في
الغالب – يكون أقوى وأصح من حديث ورد من طريق واحدة منفردة، ولذلك اعتبر العلماء
كثرة الطرق (الصالحة للاستدلال) من عناصر الترجيح عند التعارض.
وعليه فإن
كثرة طرق الحديث لا تعني بالضرورة كونه مقبولًا، كما أن قلة هذه الطرق لا تعني
بالضرورة أنه مردود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق