2013/05/22

مجدي الجعبري.... موعد مع الحرية


مجدي الجعبري.... موعد مع الحرية
كنت أسمع باسمه دون أن أعرفه، فهو أحد أبناء عائلتنا، وهي عائلة كبيرة لا يتاح لك التعرف على كل أفرادها، وكان قد اعتقل سنة 1997 وهو في العشرين من العمر، ولم أكن قد التقيت به، ورغم أنني سجنت عدة سنوات بعد سنة 1997، إلا أنني لم ألتق به إلا في بدايات سنة 2009 عندما انتقلت إلى سجن النقب، ودخلت قسم أ4 (المسمى قسم القفص)، وهناك بعد أن قام الإخوة الأحباب بالترحيب بي وجلسنا في إحدى خيام حماس للتعارف، وكنت أعرف أكثر من نصف الموجودين الذين كانوا نحو العشرين مجاهدًا قال لي أحد الإخوة: هناك بيننا أخ من عائلة الجعبري، هل عرفته؟؟؟ نظرت في الوجوه فلم أستطع تمييز من هو المقصود، وعندما عجزت عرفوني عليه فقمت وعانقته مرة أخرى، وشعرت بالسرور لأن الله تعالى قدّر لي الالتقاء به، فقد كنت أسمع أيام سجني عنه أخبارًا طيبة، وثناءً عاطرًا.
ومرت الأيام وتوثق علاقتي بأخي (مجدي) فقد انتقلنا مع كل القسم أيامها إلى قسم جديد في النقب (قسم الكرفانات ب7) وعشت مع مجدي في نفس الغرفة عدة أشهر مع ثلة من خيرة الشباب، وبعدها أغلق القسم فتوزعنا، ثم عدت والتقيته في قسم ج6، وفي سجنتي الأخيرة عشت وإياه في نفس الغرفة (غرفة 12 في قسم 9 في النقب).
هي نعمة عظيمة ينبغي لنا أن نديم شكر الله تعالى عليها، تلك هي نعمة الالتقاء بهؤلاء الشباب المجاهدين والتعرف عليهم واكتشاف معادنهم الأصيلة، هذا الاكتشاف الذي لا يكون حقيقيًّا إلا في ظل المعاناة، ففيها تتكشف معادن الرجال على حقيقتها، وقد برهن (مجدي، أبو البراء) أثناء سنوات سجنه الـ 15.5 على معدن أصيل لا تزيده المحن إلا تألقًا.
سجن مجدي مع مجموعة من خيرة شبابنا كانوا يشكلون خلية تابعة لكتائب القسام تعمل بالتنسيق مع الشهيدين القائدين (عبد الله القواسمة، أبو أيمن) و(محمود أبو هنود)، وكانت مجموعتهم مكونة من: مجدي الجعبري وباسم الجعبري وهاني الشريف وشادي غلمة، وقاموا بعدة نشاطات جهادية، كان يفترض منهم أن يتوجوها بعملية خطف دربهم عليها الشهيد (أبو هنود)، ولكن قدر الله قضى أن تفشل عمليتهم، وأن تلاحقهم قوات الاحتلال بعد أن أثارت السيارة التي كانوا فيها الاشتباه، فهربوا بسيارتهم التي انقلبت بهم أثناء المطاردة، وعندما جاءت سيارات الإسعاف لإنقاذهم وهم مصابون ظنوهم مستوطنين لأنهم كانوا متخفّين بثياب المستوطنين المتدينين، ثم اكتشفوا أنهم مجاهدون فلسطينيون فتم نقلهم إلى التحقيق وهم جرحى، ولاحقًا صدرت بحقهم أحكام رادعة فقد حكم مجدي بالسجن 15.5 عامًا، وباسم 13.5 عامًا، وهاني 16 عامًا، وشادي 17 عامًا.
وفي السجن عمل هؤلاء الشباب على الارتقاء بأنفسهم في مجالات شتى، أما مجدي فقد درس اللغة العبرية وأتقنها إتقانًا جيدًا، وحفظ من القرآن قسطًا وافرًا، بالإضافة إلى تميزه في العمل في مرافق السجن المختلفة، التي لم يترك مرفقًا منها إلى وعمل فيه في خدمة إخوانه.
مجدي يمتاز بالهدوء والتواضع والمبادرة إلى الخدمة، وإتقان لما يعمل، عندما كان يعمل (ممثلاً للأسرى في قسم ما، دوبير أو شاويش بلغة الأسرى) فإنه يكون من أقوى المدافعين عن حقوق إخوانه وإنجازاتهم، وبطريقة تجمع بين القوة والذكاء، وعندما كان يعمل في المطبخ فإن له إبداعات وإتقانًا لا يتوفران للكثيرين، وأذكر أننا عندما كنا معًا في غرفة 12 قسم 9 في النقب، وكنت أنا (الطباخ الرسمي) للغرفة فقد كنت ألجأ إليه عندما تصعب عليّ إحدى الطبخات ليساعدني فيها، ففي إحدى المرات أحضرت لنا الإدارة أقراص (اللفت)، ونحن في الخليل نطبخها ضمن (المحاشي) فنحفرها ونحشوها بالرز ونطبخها (أذكر هذه المعلومة لأن الكثيرين من إخواننا في المناطق الأخرى استغربوا قيامنا بحشو اللفت)، يومها قلت لهم إنني – وبما أنها المرة الأولى من سنوات طويلة يأتينا فيها اللفت – فلن أغامر بطبخه لكم وأنا لا أتقن ذلك فقام مجدي بتولي أمور الطبخة كاملة، وساعده عدد من الشباب في حفر اللفت، وكانت طبخة مميزة سيظل أسرى غرفة 12 يذكرونها بسبب الأجواء الطيبة التي رافقت ذلك.
وكان لمجدي في الرياضة في السجن صولات وجولات، فهو من الشباب الذين أدركوا أن إهمالهم لأجسادهم سيراكم عليها السلبيات بسبب طول فترة سجنهم، فكان له برنامج رياضي يومي، يبدؤه بعد (عدد الصباح) ويمارس فيه الرياضة نحو ساعة يوميًّا، فاستطاع بفضل الله الحفاظ على صحته ولياقته رغم طول فترة سجنه.
الذكريات كثيرة، وليس هذا المجال المناسب لذكرها كلها، ولكني سأذكر قصة طريفة حدثني إياها مجدي وهاني عن أيام تدربهم مع الشهيد (أبو هنود) على عملية الخطف، فقد كان يفترض أن يقود هاني السيارة، ويجلس مجدي في الكرسي الخلفي، وعندما يصعد (الهدف) يجلسونه في الكرسي الأمامي بجانب السائق، وبعد التحرك يقوم مجدي من الخلف بوضع حبل حول رقبته لمنعه من التحرك، فأراد (أبو هنود) التأكد من جاهزيتهم، فطلب منهم تمثيل ما يجب فعله، وأخذ هو – رحمه الله – دور (الهدف)، وعندما وضع مجدي الحبل حول رقبته قام بشدّه والضغط عليه لمنعه من التحرك، فقد كانوا يرغبون بإثبات جدارتهم لتنفيذ المهمة، وبعد حين انتبه هو وهاني أن (أبو هنود) كان يشير بيده، وقد ازرقّ لونه، وانقطع صوته ونَفَسُه، فقد كادوا يخنقونه من قوة شدَّ الحبل، وعندما أطلقوه قال لهم: لقد تأكدت الآن من جاهزيتكم. وعندما حدثوني بالقصة قالوا لي: لقد كدنا نقتل (أبو هنود) من شدة اندماجنا فيما كنا فيه.
كانت هذه إحدى القصص الكثيرة التي لدى هؤلاء، منها قصص طريفة، وأخرى مؤلمة، قصص فيها ما يدفعك للشعور بالفخر، وأخرى تؤرخ لتجارب فيها أخطاء يجب معرفتها ليستفيد الآخرون منها، ويجمعها أنها جزء من تاريخنا النضالي الشفهي الذي يجب أن يتم توثيقه ما دام أبطال أحداثه موجودين.
المهم.... غدًا الخميس 23/5/2013 تنتهي – بمشيئة الله تعالى – رحلة السنوات الخمسة عشر والنصف التي قضاها مجدي خلف القضبان، ويتنسم عبير الحرية، ويزول عنه همّ السجن ومعاناة الأسر، ويبقى الأجر إن شاء الله.
غدًا موعدنا للالتقاء بالأخ الحبيب مجدي، وموعده هو للالتقاء بالحرية التي سعى لتحقيقها لإخوانه الأسرى ودفع أحلى سنوات عمره ضريبة لذلك.
فأهلاً بك يا أبا البراء في مدينتك التي قد أحببتها، بين أهلك الذين اشتاقوا إليك.
والعقبى لبقية الأحباب.
  
  
          

2013/05/11

الكتلة الإسلامية وانتخابات مجلس الطلبة



الكتلة الإسلامية وانتخابات مجلس الطلبة



يحق لأبناء وبنات الكتل الإسلامية في جامعاتنا في الضفة المكلومة أن نقف لهم وقفة اعتزاز وافتخار، فهم يرفعون الراية في زمن يحاربهم فيه القريب والبعيد، ويزرعون في حقول الشوك الورود، وحالهم هو كما وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم أنهم ( لا يجدون على الحق أعوانًا). 

ورغم كثرة التحليلات المتعلقة بالانتخابات، ومنها ما قاله الناطق باسم فتح بأن فوز الشبيبة في هذه الانتخابات رسالة مدوية تثبت أن حركة فتح ما زالت تتمتع بثقة الغالبية العظمى من الجماهير الفلسطينية، وأن هذا الفوز بمثابة مبايعة لقائد الحركة ورئيس الشعب الفلسطيني ابو مازن، واستفتاء على منهج قائد الحركة وبرنامجها السياسي، وبالنسبة لفتح فهذه عادتها، تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، والتعامي عن الحقائق، وأبرزها أن تحقيق الكتلة الإسلامية لهذه النتائج (المتواضعة) في ظل القمع البوليسي الذي تتعرض له والهجمة من قبل كل من سلطة عباس والاحتلال يعتبر انجازًا نوعيًا له ما بعده، فإن هذا ليس هذا ما يهمني من المسألة، فالذي يهمني هو موقفنا نحن من الانتخابات، وهنا لا بد من إبداء الملاحظات التالية، أوجهها لأبنائي في الكتل الإسلامية، عسى أن نعمل على تطوير الأداء وتجاوز الأخطاء:

أولًا: لم يكن هناك تزوير في هذه الانتخابات، بمعنى تغيير الصناديق، واقتراع غير ذوي الحق، والصيحات التي صدرت من البعض مدعية حصول ذلك لا أظنها تعبر عن الموقف الرسمي للكتلة الإسلامية، وإنما هي صيحات مكلومين حرَّكتهم عواطفهم الجياشة، وهالهم أن النصر الذي كانوا يرجونه لم يتحقق، وذلك نابع من عدم دراستهم للواقع الحقيقي، فانتصار الكتلة الإسلامية قد تحقق بمجرد مشاركتها في ظل هذه الظروف الأمنية والقمع البوليسي الذي يتعرض له أبناء التيار الإسلامي، وأنا هنا أوجه نداء لهؤلاء المخلصين أن لا يقعوا في هذا الفخ، فخ الاتهامات غير الواقعية، وغير المستندة إلى أدلة، لأن هذا يسيء إلينا أولاً وآخرًا.


ثانيًا: التزوير الحقيقي والفعلي للنتائج هو هذا الجو من الإرهاب الذي تمارسه السلطة ضد معارضيها، والذي يمنع الكثيرين من المشاركة والإدلاء بأصواتهم خوفًا من عواقب ذلك، وأنا متيقن أن الظرف الذي تعيشه الضفة المكلومة لو كان غير ما هو عليه لكانت النتائج مغايرة، وهذه رسالة يجب أن يدركها الإخوة الذين يفاوضون فتح حول المصالحة، مفادها لا تقعوا في فخ الموافقة على إجراء الانتخابات إلا إذا تهيأت ظروف الحرية اللازمة لذلك، وإلا فإن الانتخابات ستزور ليس بتغيير الصناديق واقتراع الموتى والغائبين، وإنما بتزوير الإرادات، ودفع مؤيدينا لعدم الاقتراع خوفًا على أنفسهم ومصالحهم.

ثالثًا: نحن بحاجة إلى نقد ذاتي، ودراسة لما حدث، واستخلاص للعبر منه، فهل كان أداؤنا كما يجب أن يكون؟؟؟ هل مارسنا الدعاية بالطريقة التي تحقق جلاء الصورة وتوضيح الحقيقة؟؟؟ وخصوصًا مع حملة التشويه المستمرة من سنوات، والتي جعلت قطاعًا واسعًا من أبنائنا وبناتنا لا يعرفون عن التيار الإسلامي إلا ما يسمعونه من سلبيات، فهم لم يشاهدوا أبناء هذا التيار على أرض الواقع لأنهم غائبون أو مغيبون، والمطلوب جهد مضاعف لجلاء الحقائق.
إنها دعوة أوجهها لأبنائنا وبناتنا في الكتلة الإسلامية أقول لهم فيها إن النتائج المتواضعة التي حصلتم عليها، رغم أنها إنجاز مقبول في ظل ظروفكم التي تعيشونها إلا أنها يجب أن تطرح السؤال الذي يجب عليكم مناقشته: هل لم يكن بالإمكان أفضل مما كان؟؟؟
الفشل في الإنجاز له أسباب خارجية وداخلية، ومن الخطأ الشنيع أن نركز على الأسباب الخارجية التي ليس بيدنا تغييرها، لأن ذلك سيدفعنا لليأس والقعود، والمهم بعد إدراكنا لعوامل الإعاقة الخارجية أن نقف مع ذواتنا وقفة نقيم من خلالها أداءنا، ونتعرف على أخطائنا وعثراتنا، فنحن لسنا معصومين، والخطأ وارد، ولا تظنوا أنني أحملكم وحدكم مسؤوليته، فكلنا شركاء فيه، ولكم عذر في أنكم تعملون بدون الاستفادة من تجارب سابقيكم في كثير من الأحيان، ولكن تذكروا أن مراجعة الذات وتقويم الأداء من أهم عناصر التطور وتجاوز الأخطاء في المستقبل.
أسأل الله أن يوفقكم للخير، ويسددكم للصواب، وأن يرفع بأيديكم راية الإسلام خفاقة في كل مكان.

(نشرت بتاريخ 20/4/2013 على صفحتي في الـ  Facebook )


ملاحظات من جنازة الشهيد ميسرة أبو حمدية

ملاحظات من جنازة الشهيد ميسرة أبو حمدية

شاركت اليوم في تشييع الشهيد الكبير ميسرة أبو حمدية إلى مثواه الأخير، رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه مع الشهداء والصالحين.
وقد لفت نظري أثناء الجنازة عدة ملاحظات، أحببت مشاركتكم إياها:
أعجبني ذلك التنوع في المشاركين في التشييع، فقد رأيت الشباب والأشبال، كما رأيت الكهول والشيوخ، وقد كان حضور الشباب لافتًا، وهو أمر يبشر بخير، وبأن محاولات تدجين هذا الجيل باءت وستبوء بالفشل.
ولم يعجبني أن عددًا من المشاركين في الجنازة لم يشاركونا لا في صلاة الظهر ولا في صلاة الجنازة، بل إنهم كانوا أثناء أداء الصلاة يهتفون ويصفقون ويطلقون النار في الهواء، ويشوشون بذلك على المصلين.
وأعجبني أني وجدت الكثير من إخواني الأعزاء، رفاق الأسر، ومنهم عديدون لم يتحرروا من السجن إلا في الآونة الأخيرة كانوا مشاركين وبشكل كثيف، في لفتة وفاء لأخ لهم، لعل كثيرًا منهم لم يلتقوا به، ولكن روابط الأرواح لها قوة عجيبة.
ولم يعجبني استفراد جهة معينة بالسيطرة على مجريات الجنازة، وعدم إتاحة المجال للآخرين، الذين اختار الشهيد بنفسه العيش في صفوفهم في أيامه الأخيرة ليعبروا عن مشاركتهم بالشكل اللائق.
أعجبتني الهتافات التي كانت تركز على الوحدة بين فصائل شعبنا كافة.
ولم يعجبني الذين يهتفون بالدعاوى الكاذبة، والعصبية المفرطة، والذين يتبجحون بما لا يستطيعون ولا ينوون.
هذه ملاحظات سريعة على مجريات الجنازة، وسيبقى الوجع الذي سببه استشهاد المجاهد أبي طارق حاضرًا في قلوبنا، إلى أن يتحرر أسرانا البواسل.

رحمك الله يا أبا طارق.

أبو طارق وشموخ الصابرين


أبو طارق وشموخ الصابرين





لقائي مع القائد الشهيد ميسرة أبو حمدية لقاء لن أنساه ما عشت، فهو لقاء تشرفت فيه بالاجتماع مع رجل من النماذج النادرة في هذا العصر، مع رجل يقدم نموذجاً للصبر والشموخ في زمن عزَّ فيه الشامخون.
كان ذلك قبل نحو شهر من الآن، في رحلة من رحلات بوسطة السجن، تلك الرحلة التي يستشعر المسافر فيها حقًّا معنى عبارة (السفر قطعة من العذاب)، يومها صعدت إلى باص البوسطة، وكالعادة مقيد اليدين والرجلين، وما أن دلفت إلى الزنزانة ذات المقاعد الحديدية التي في الباص، ولا يستغربنّ أحدكم أن الباصات تحوي زنازين، فهو الواقع الذي نعيشه ونشاهده نحن الأسرى، حتى وقعت عيني على جبلين شامخين وبطلين مجهولين من أصدقائي الأعزاء وهما الأخ المجاهد جميل النتشة – أبو عاصم – عميد أسرى حماس حالياً في السجون، فهو في الأسر منذ سنة 1992، وقد بقي له من محكوميته نحو تسعة شهور، والأخ المجاهد مشهور الرجبي – أبو بهجت – المحكوم بالسجن 45 عامًا، مضى منها نحو 8 سنوات فقط، وبعد أن صافحتهما وعانقتهما، والقيود لدي ولديهما تعوق من إيفاء العناق والمصافحة حقهما الذي يفرضه الشوق، همس أبو عاصم في أذني مشيراً إلى وجود الأخ المجاهد الكبير (ميسرة أبو حمدية) معهم في البوسطة، فالتفتُّ إلى حيث هو لإلقاء السلام عليه، وقد كنت أسمع عنه كثيرًا من الاخوة الأسرى، وكانوا يثنون عليه الثناء العاطر، ولم يكن قد حصل لي شرف الالتقاء به قبل ذلك اليوم.
كان أبو طارق – رحمه الله – يجلس على الكرسي الأول بجانب الباب إلى يمين الداخل للزنزانة المتنقلة، فسلمت عليه، وقبلت رأسه، وجلست إلى جانبه، وعرفته بنفسي، وكما هي العادة فقد دار بيننا الحديث الذي يدور بين الأسرى عندما يتعارفون، فيه الاطمئنان على الأحوال، والسؤال عن الصحة، والتأكد هل بقي الأخ الذي تلاقيه في السجن الذي تعرف أنه فيه أم أن الأيام نقلته إلى سجن آخر، ونقل سلامات الأسرى الآخرين له، والدعاء المتبادل بالفرج من الله، والقبول والتثبيت، إلى آخر هذه الأحاديث التي تخالف ما يتحدث به أهل الدنيا عندما يلتقون، فإننا ونحن في الأسر نعيش في دنيا غير الدنيا التي يعرفها غالب الناس.
لقد كنت أسمع من الإخوة الذين كانوا يخرجون في (البوسطات) عن تردي الحالة الصحية للأخ أبي طارق، فـ (البوسطات) تستخدم لتبادل الأخبار بين السجون المختلفة، ومن الطبيعي أن تستمع الأخ العائد من البوسطة وهو يقدم تقريرًا إخباريًّا عما سمعه: فلان انتقل من سجن كذا إلى سجن كذا، وفلان أفرج عنه، وفلان أصيب بمرض كذا، وفلان أنهى دراسته الجامعية، وفلان تم تمديد اعتقاله، وفلان حكم بالسجن كذا وكذا، وهكذا تنتقل الأخبار بين السجون المختلفة، فمن الطبيعي أن خبر مرض الأخ ميسرة كان قد انتشر في السجون قبل ذلك بفترة، وخصوصًا أنه خرج عدة مرات في رحلة البوسطة لإجراء الفحوصات في مستشفى سجن الرملة، وكان بعض إخواننا الخارجين من سجن النقب يلتقونه، ولكن الرائي ليس كالسامع، لقد وجدت أن كل ما كنا نسمعه عن تردي الحالة الصحية للأخ ميسرة – رحمه الله – لا يعبر عن الصورة الحقيقية لذلك، عندما جلست إلى جانبه كان يبدو عليه الهزال الشديد، حتى أن وزنه لا يكاد يصل إلى 50 كيلوغرامًا، بل إنه كان يضع يده على فخذه فتكاد يده تضم بين أصابعه فخذه كلها من شدة الهزال، أما صوته فكان خافتًا لا يكاد يُسمع، حتى أني كنت أضع أذني قرب فمه لأسمع ما يقول، ومع ذلك فالصوت يصل ضعيفًا خافتًا، وبعض الكلمات لا تكاد تفهم من ضعف الصوت، وقد آثرت عدم مواصلة الحديث معه، لئلا أتعبه فرحلتنا طويلة، وسيكون هناك مجال للحديث معه أكثر إن أتاحت ظروفه الصحية ذلك.
وصلنا بعد ساعتين سجن السبع حيث ننزل في العادة إلى محطة يتم فيها تبديل (الشفت) في البوسطة، ويضعوننا في زنازين سيئة للغاية، نبقى فيها حتى الساعة الساسة مساء، حيث موعد استئناف الرحلة الطويلة، وفي زنزانتنا تلك جاؤونا بوجبة الطعام الوحيدة لذلك اليوم، والتي تتكون من بيض مسلوق، وبطاطا مسلوقة، ولم يكن أبو طارق يستطيع الأكل إلا بمشقة شديدة، ولم يكن لدينا ماء، وكان لا يمكنه الأكل إلا بأن يسيغ كل لقمة بشربة ماء بعدها، فصرخنا وصحنا حتى اضطر حراسنا لإحضار بعض الماء ليتمكن أبو طارق من الأكل، وماذا كان كل ما أكله؟؟ بيضةٌ مسلوقة واحدة.
انتقلنا في البوسطة بعدها إلى (معبر الرملة)، الذي وصلناه نحو الساعة التاسعة ليلًا، حيث نمضي ليلتنا وفي اليوم التالي يتم ترحيل كل أسير إلى حيث هو ذاهب، وقد كنت ذاهبًا إلى المحكمة في (عوفر)، أما الأخ أبو طارق فقد كان ذاهبًا إلى مستشفى خارجي – أي أنه لا يتبع مصلحة السجون – لإجراء فحوصات، وعندما يدخل الأسرى (معبر الرملة) يتم توزيعهم في الغرف عشوائيًا، فيتم ملء الغرف تباعًا، ولذلك ليس باختيارك أن تبيت ليلتك تلك مع من ترغب ممن يرافقونك، ولذلك لم يتح لي أن أكون والأخ ميسرة في نفس الغرفة.
في اليوم التالي ذهبت إلى محكمتي في عوفر، وهم يبدؤون تجهيزنا بوضع القيود في أيدينا ونقلنا إلى الأقفاص في المعبر عند الساعة الثالثة قبل أذان الفجر، ونبقى في الأقفاص حتى الثامنة صباحًا، ثم ذهبنا إلى المحكمة، وعدنا منها إلى الرملة عند الثامنة مساءً، فسألت عن الأخ ميسرة، فإذا به قد عاد من المستشفى عند الساعة الرابعة عصرًا، وهو موجود في أحد الأقفاص حيث يتواجد معه فيه نحو ثلاثين أسيرًا آخر، وكان كثير منهم للأسف يدخنون بلا مراعاة لظرف الأخ ميسرة الصحي، وكان الجو في ذلك اليوم شديد البرودة، حتى في منطقة الرملة، وقد عانينا من شدة البرودة حتى بعد وصولنا سجن السبع، فما بالكم بالحال التي كان عليها الأخ أبو طارق بوضعه الصحي الذي كان فيه!!
انتقلنا من أقفاص (معبر الرملة)، وما أدراك ما أقفاص (معبر الرملة)؟، فهي وحدها حكاية، لعلي أقصّها في يوم من الأيام، وكان ذلك عند الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، أي أن الأخ ميسرة قضى في تلك الأقفاص المعدة لتعذيب الأسرى وإذلالهم ثماني ساعات مرهقات، انتقلنا إلى باص البوسطة مرة أخرى راحلين إلى (معبر سجن السبع) حيث المفترض أن نبيت ليلتنا ليتم توزيعنا عائدين إلى السجون التي جئنا منها مرة أخرى.
وصلنا سجن السبع عند الساعة الثالثة والنصف قبل الفجر، والأسير ما يكاد يصل الغرفة هناك حتى يرتمي على البرش طالبا لاقتناص سويعات من الراحة بعد رحلة تمتد في تلك المرحلة منها 24 ساعة تكون في أغلبها مقيدا في الباص أو محشورا في الأقفاص، وكان لي شرف أن أرتب للأخ الكبير المجاهد ميسرة برشه، الذي كان لا يقوى على ترتيبه، ثم استيقظنا بعد نحو ساعتين أنا وهو وأخ آخر لنؤدي صلاة الفجر في وقتها بفضل الله وحده.
ومن هناك عاد كل منا إلى السجن الذي كان فيه، وفي أثناء ذلك اغتنمت الفرصة للحديث مع الأخ أبي طارق، فأخبرني بمجريات رحلته إلى المستشفى، وعلمت منه أن ذهابه إلى المستشفى كان لإجراء تصوير طبقي، فقد كان الأطباء لا يزالون يجرون له الفحوصات لتحديد المرض الذي كان يعاني منه منذ فترة طويلة، وبالمناسبة فإنهم لم يشخصوا المرض بأنه السرطان ولم يبدؤوا إعطاءه العلاج الكيماوي إلا بعد تلك الرحلة، يعني قبل أقل من شهر على استشهاده.
في لقائنا ذاك، ورغم الحالة الصعبة التي كان فيها الأخ ميسرة، ورغم الآلام التي كانت تنهش جسده – كما أخبرني – ورغم الإهمال الطبي الذي كان يعاني من آثاره إلا أنه كان نموذجا للرجل المؤمن الصابر الراضي بقضاء الله، قال لي في حديثه: لقد عزفت نفسي عن الدنيا وكل ما فيها، وكل من أريده منها لحظات من الهدوء والسكينة أعيشها في ما تبقى لي من أيام.
لقد شعرت بالإيمان العميق الذي كان يعمر قلب هذا الرجل، ورأيت كيف يصبر بعض الرجال صبر الجبال، وكيف يشمخ بعض الأبطال شموخ السحاب، وكيف يزهد بالدنيا من كانت الدنيا في يده لو أراد، ميسرة أبو حمدية، ذلك الرجل الذي كان ضابطًا كبيرًا في جهاز الأمن الوقائي، ولم يمنعه ذلك من أداء دوره الجهادي، والذي حكم بالسجن المؤبد نتيجة لعمله مع حماس، ومع أنه لم يقض الله له أن يتم الإفراج عنه في صفقة وفاء الأحرار، مع أن بقية أعضاء المجموعة التي عمل معها أفرج عنهم، فإنه رغم ذلك حول رسميًّا انتماءه بعد تلك الصفقة وانتقل من صفوف فتح التي بدأ مسيرته فيه، إلى صفوف حماس التي جاهد معها، وآثر أن يختم مسيرته تحت رايتها، وقال عن ذلك: "لم أرغب بالتحويل رسميا من فتح إلى حماس قبل الصفقة لئلا يظن ظانّ أنني فعلت ذلك ليوضع اسمي فيها، أما الآن فتحويلي ليس فيه شبهة رغبة دنيوية"، وهو موقف لا يصدر إلا عن رجال عزّ وجودهم في هذه الأيام.
كانت تلك قصة السويعات التي عشتها مع الأخ العظيم، والرجل الكبير، ميسرة أبو حمدية، الذي اختاره الله ليصطفيه شهيدًا عنده إن شاء الله، ليكون شاهدًا على ظلم الاحتلال وأعوانه، وهي سويعات عظيمة لن أنساها ما حييت، وأسأل الله تعالى الذي جمعني به في تلك الرحلة على غير ميعاد أن يجمعني وإياه وسائر إخواننا في جنان النعيم في مقعد صدق إنه عزيز مقتدر.


رحمك الله يا أبا طارق، ورفع درجتك في عليين من النبيين والشهداء والصالحين، وعوض الأمة عن فقدك خيرًا.

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...