2010/08/30

أبو البختري وحفظ المعروف

تمر علينا هذه الأيام ذكرى معركة بدر، وفي العادة يذكر المتحدثون المفاصل الرئيسة للمعركة ويتحدثون عنها في خطب الجمعة والدروس والكلمات في الاحتفالات، غير أنني أريد أن أقف عند بعض الأحداث التي يهملها الكثيرون ويعتبرونها ثانوية، مع أن فيها من الفوائد الكثير، وهي التي تعلمنا كيف يتم التعامل مع قطاعات مختلفة من الناس حولنا।
أحد المشاهد اللافتة للنظر في قصص معركة بدر، وما أكثرها! هو ما روته كتب السيرة عن طلب الرسول  من صحابته عدم قتل بعض المشاركين في جيش المشركين، فقد روى ابن هشام في سيرته أن النبي  قال لأصحابه يومئذ:"من لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله"
فلقيه المجذر بن زياد البلوي رضي الله عنه فقال لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك.
ومع أبي البختري زميل له قد خرج معه من مكة، قال: وزميلي؟
فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك.
فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة.
فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال يرتجز
لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله
فاقتتلا، فقتله المجذر بن زياد، ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.
هذا الموقف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن درسًا يجب علينا أن نقف عنده، وحتى نفهم الدرس يجب أن نعرف لماذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم قتل أبي البختري وعدد آخر من رجالات قريش المشركين.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.
ويعتبر موقف أبي البختري من صحيفة مقاطعة المسلمين هو الموقف الأساس الذي استحق به هذه الحماية، وهو موقف ذكره له التاريخ وسجله له ولمن كانوا معه بلسان الشكر، وملخص الموقف أن عددًا من رجالات قريش المشركين ساءهم الحصار الظالم الذي فرضته قريش على المسلمين في شعب أبي طالب، فاجتمعوا واتفقوا على أن يعملوا على نقض الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على أن تقاطع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكان هؤلاء هم: هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وكلهم كانوا من المشركين، فاتفقوا على ذلك، ووضعوا خطة لكسر الحصار، فأصبح زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشق.
فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت.
وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.
وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان.
وكانت هذه الحركة التي قاموا بها أحد العوامل التي بسببها تم فك الحصار عن المسلمين بعد استمراره ثلاث سنوات.
ونلاحظ أن هؤلاء ورغم كونهم مشركين كانت لهم مواقف إيجابية من المسلمين، لعل الدافع لها كان الرحمة الإنسانية في قلوب بعض الناس، أو الأنفة من الظلم والجور، ليس مهماً لنا ما الدافع هنا، ولكن المهم ماذا كانت نتيجة عملهم.
ومما يذكر عما قام به بعض هؤلاء أن هشام بن عمرو كان يأتي بالبعير ليلاً، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب، وقد أوقره طعاما، حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره برا، فيفعل به مثل ذلك.
ولم يكن حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم لمعروف هؤلاء مقتصرًا على موقفه من أبي البختري، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر:"لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له".
وكان المطعم قد مات في مكة على شركه قبل معركة بدر بمدة يسيرة.
فانظر إلى هذا الوفاء من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مستعدًا أن يطلق سراح كل أسرى المشركين في بدر إكرامًا للمطعم بن عدي لو كان حيا.
وكان المطعم قد وقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً يسجل له عندما رجع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد صده أهلها وآذوه، فخشي من قريش بعد سماعها ذلك، وكان عمه أبو طالب قد مات، فدخل مكة في جوار المطعم بن عدي، الذي خرج بنفسه وأولاده وإخوته وقد تقلدوا أسلحتهم وشكلوا حلقة حول الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخلوه مكة في حمايتهم مبدين استعدادهم للموت دفاعًا عنه، وهم مشركون.
وعندما مات المطعم، وهو قد مات على شركه كما قلنا رثاه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسانُ بن ثابت رضي الله عنه بقصيدة قال فيها:

أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي / بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما
وبكي عظيم المشعرين كليهما / على الناس معروفا له ما تكلما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا / من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا / عبيدك ما لبى مهل وأحرما
فلو سئلت عنه معد بأسرها / وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا هو الموفي بخفرة جاره / وذمته يوما إذا ما تذمما
فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم / على مثله فيهم أعز وأعظما
وآبى إذا يأبى ، وألين شيمة / وأنوم عن جار إذا الليل أظلما
وكان حسان قد مدح هشام بن عمرو أيضًا على دوره في نقض الصحيفة.
الدرس المهم أيها الإخوة الذي نريد استيعابه أن المسلمين هم أهل الوفاء، وأن من وقف معهم موقفًا إيجابياً وهم في محنتهم، حتى لو كان منم أهل الشرك فلن ينسوا له ذلك، وحتى في الآخرة فإن الله لن يضيع عمل هؤلاء الذي عملوه في الدنيا، وإلا فلماذا جعل الله سبحانه النار دركات كما جعل الجنة درجات، ولماذا كان أبو طالب أخف أهل النار عذابًا، ألأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! لا والله، فقد كان أبو لهب عمه أيضًا، وإنما استحق هذا التخفيف عنه لمواقفه في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مواقف دفعه إليها حميته وعصبيته.
وهناك مسألة أريد أن أشير إليها نلحظها من موقف أبي البختري عندما أخبره الصحابي المجذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، لاحظوا أن أول ما خطر بباله هو مصير زميله الذي كان معه، فلما رفض الصحابي أن يعطي الأمان لزميله أَنِفَ أبو البختري من أن يسلم رفيقه للقتل وينجو بنفسه، ووجد أن ذلك عيب لا ينبغي أن يقع فيه، فضحى بنفسه وقاتل حتى قتل، لئلا تقول نساء مكة أنه ترك زميله حرصًا على الحياة، وهذا الموقف يأتي من رجل مشرك، من الذين أخبرنا الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقولون:"إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" [المؤمنون٣٧]، فهو لم يكن يؤمن بالبعث بعد الموت، ولا بالجنة التي تدفع المؤمنين بها للرضى بالموت طمعًا بما ينتظرهم من جزاء، ولكن هذا الموقف من أبي البختري يدل على نفسية فيها عزة تأنف الذل وترفضه، وتتحرج من العار ومساوئ الأخلاق، ولعل هذا ما كان يدفعه للدفاع عن الرسول  في مكة، ولذلك استحق ذلك التنويه من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
نريد أيها الأحباب أن نتعلم أنه لا يجوز أن نعامل من وقف معنا وساعدنا كمعاملة من حاربنا، حتى لو كان الطرفان كافرَيْن، وهذا ما علمنا إياه ربنا سبحانه وتعالى في قوله:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة 8-9].
أسأل الله أن يرزقنا الفقه في دينه.

2010/08/26

حق التلاوة

"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[البقرة 121]
التلاوة كلمة تأتي بمعنى قراءة القرآن، قال في لسان العرب "تَلَوْت القرآن تِلاوةً: قرأْته، وعم به بعضهم كل كلام". وقال:"تَلا يَتْلو تِلاوَة يعني قرأَ قراءة".
ولكن الملاحظ وكما في كثير من كلمات اللغة العربية والتي يكون لها عدة معانٍ تختلف باختلاف سياقها أن معنى كلمة "تلا" أشمل من معنى القراءة، فقد جاء في لسان العرب كذلك أن من معاني كلمة "تلا" الاتباع والتخلف والتأخر، يقال:"تَلَوْته تُلُوّاً: تبعته" ، ويقال:"تَلا عَنِّي يَتْلُو تُلُوّاً إذا تركك وتخلَّف عنك" ويقال:"تَلا إذا اتَّبع، فهو تالٍ أَي تابعٌ. .. وتَلا إذا تخلَّف .. وتَلا إذا تأَخر" فكأن التالي في هذه المواقف يتبع المتلوَّ، ويتخلف عنه أي يجيء خلفه، ويتأخر عنه وهو من علامات الاتباع إذ التابع متأخر عن المتبوع.
هذه المعاني يجب أن نستحضرها عندما "نتلو القرآن"، فليست التلاوة مجرد القراءة والنطق بالألفاظ، ولذلك فهم أهل التأويل من العلماء من قوله تعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" أنهم الذين يتبعونه حق الاتباع، قال الطبري:"بـمعنى: يتبعونه حقّ اتبـاعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أَثَره"، ونقل في ذلك أقوالاً عن السلف رضي الله عنهم تدور كلها في نفس السياق، منها:
قال ابن عبـاس:"يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفونه".
وقال عبد الله ابن مسعود:"والذي نفسي بـيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرّف الكلـم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً علـى غير تأويـله".
وعن مـجاهد قال:"يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ عَمَلاً به".
وقال قـيس بن سعد:"يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: يتبعونه حقّ اتبـاعه ألـم تر إلـى قوله:"وَالقَمَرِ إذَا تَلاها" يعنـي الشمس إذا تبعها القمر".
و "حَقَّ تِلاَوَتِهِ" فيه مبـالغة فـي صفة اتبـاعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال: إن فلانا لعالـم حَقّ عالـم، وكما يقال: إن فلانا لفـاضلٌ كلّ فـاضل، فالمقصود كما يقول الطبري:"مدح التلاوة التـي تلوها وتفضيـلها".
نعم لقد ذكر بعض المفسرين أن معنى "حق تلاوته" أي حق قراءته، وذكروا في ذلك وجوهًا منها:
· أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما.
· أنهم خضعوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرؤوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم.
· أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه.
· يقرؤونه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير الحق.
ومنها أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، يتضمن تعظيم ما أنزل الله والانقياد له لفظاً ومعنى، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم.
وذهب بعضهم إلى أن المقصود بحق التلاوة :"فهم مقاصد الكلام المتلو، فإن الكلام يراد منه إفهام السامع، فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو".
غير أنه وإن كانت هذه المعاني مقبولة فحق التلاوة لا يتحقق إلا بالاتباع، إذ هو المقصود الرئيس من نزول القرآن، وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال:"ما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله وما أسقط منه حرفا واحدا وقد أسقطه كله، ما ترى له في القرآن من خلق ولا عمل، وحتى أن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نَفَس واحد، والله ما هؤلاء بالقراء و لا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كان القراء يقولون مثل هذا، لا كثر الله في المسلمين من هؤلاء".
وروي عن ابن مسعود أنه قال:"أُنْزِل القرآن عليهم ليعملوا به, فاتخذوا دراسته عملاً, إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يسقط منه حرفاً, وقد أسقط العمل به".
وقد بين الله تعالى في سورة فاطر نوعية قراء القرآن الذين وعدهم بالأجر فقال سبحانه:"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" [فاطر29-30]، وهذه الآية كان مطرف بن عبد الله يقول عنها: هذه آية القراء.
وقال الشهيد سيد قطب عن هذه الآية :"وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك، ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سراً وعلانية من رزق الله، ثم رجاؤهم بكل هذا (تجارة لن تبور)، فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح، يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة؛ ويتاجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة، تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله، (إنه غفور شكور)، يغفر التقصير ويشكر الأداء، وشكره ـ تعالى ـ كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء، ولكن التعبير يوحي للبشر بشكر المنعم تشبهاً واستحياء، فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!"
أسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن يجعل القرآن حجة لنا لا حجة علينا، اللهم آمين.

2010/08/23

صاحب الرغيف

روى أبو بردة بن أبي موسى الأشعري أنه لما حَضَرت أبا موسى الوفاةُ قال: يا بَنيّ اذكروا صاحب الرغيف، كان رجلٌ يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة , لا ينزل إلا في يوم واحد.
قال: فشُبِّه أو شبه الشيطان في عينه امرأة، فكان معهما سبعة أيام أو سبع ليال، ثم كشف عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً وكان كلما خطا خطوة صلى وسجد.
فآواه الليل إلى دكان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم , وكان ثَمَّ راهبٌ يبعث إليهم كل ليلة أرغفة فيعطي كل إنسان رغيفاً، فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفاً, ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائباً فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفاً, فقال له المتروك: مالك لم تعطني رغيفي؟
فقال: تراني أمسكت عنك؟ سل هل أعطيت أحداً منكم رغيفين؟
قالوا: لا.
فقال: والله لا أعطيك الليلة شيئاً.
فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه فدفعه إلى الرجل الذي تُرك.
فأصبح التائب ميتاً، قال: فوزنت السبعون بالسبع ليال، فرجحت الليالي، فوزن الرغيف بالسبع الليالي فرجح الرغيف، فقال: أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف.
[الحكاية أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه، باب ما ذكر في سعة رحمة الله تعالى، ح33546، وأبو نعيم في حلية الأولياء، ح 916، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/100.]

هذه الحكاية التي قصها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تحوي الكثير من الدروس والعبر التي تستفاد منها، أحببت أن نقف عند بعضها في هذه الأيام الفضيلة.
نلاحظ فيها بدايةً حرص أبي موسى على أبنائه وتنبيههم إلى طرق الخيرات وتوجيههم إلى ما يقربهم من الله، فالإسلام قد حث الآباء على توجيه أبنائهم وتربيتهم، وها هو أبو موسى يحرص على ذلك مع أبنائه، وليت كل واحد منا يقوم بهذا الدور المهم، فواجب تربية الأبناء وتوجيههم هذه الأيام ألزم من أي وقت مضى، ذلك أن الآباء يزاحمهم في عملية التربية الكثيرون، فالتلفزيون والانترنت وأصدقاء المدرسة والشارع والمناهج الدراسية التي تحوي أحيانًا بعض السم مدسوسًا في الدسم، كل ذلك يساهم في تربية أبنائنا، فإن لم نقم نحن بدورنا فلمن سنتركهم؟؟
درس آخر نستفيده من هذه الحكاية هو أن الشيطان يتربص بالإنسان ولا ييأس منه، وهو يبذل جهده الأكبر مع السائرين في طريق الله، فهذا الرجل عبد الله سبعين سنة، ومع ذلك كان الشيطان وراءه لم ييأس منه، فالشيطان كاللص، هل رأيتم لصًّا يحرص على سرقة منازل الفقراء المعدمين؟؟ اللصوص يحاولون سرقة منازل الأغنياء، والشياطين تحاول إضلال الأتقياء، ولذلك فيجب أن لا يغتر أحد منا بكثرة عبادته، فيظن أنه نال بها العصمة، فهذا العابد قد فُتِن بعد تعبده 70 سنة ولذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:" لا تقتدوا بالأحياء، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
ومما يستفاد من هذه الحكاية كذلك أن باب التوبة مفتوح، فمهما كان الخطأ الذي وقع فيه العبد، فإن الله "يغفر الذنوب جميعًا"، ومن وساوس الشيطان أنه يأتي للعاصي فيجعله ييأس من رحمة الله ومغفرته، ولعل يأسه هذه يكون ذنبًا أعظم عند الله من كل ذنب، وهناك قصة لطيفة في مسألة التوبة بعد مواقعة المعاصي رواها الخطيب البغدادي في "تاريخه" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن إبراهيم بن شيبان قال: كان عندنا شاب عبد الله عشرين سنة فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا أعجلت في التوبة والعبادة وتركت لذات الدنيا، فلو رجعت فإن التوبة بين يديك. قال: فرجع إلى ما كان عليه من لذات الدنيا، قال: فكان يوما في منزله قاعدا في خلوة فذكر أيامه مع الله فحزن عليها وقال: أَتُرى إن رجعت يقبلني؟! قال: فنودي يا هذا، عبدتنا فشكرناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
أما الدرس الأخير الذي سنقف عنده فهو حول أوزان الأعمال عند الله، فنحن نلاحظ من الحكاية أن خلق الإيثار والتواضع كان له من الوزن عند الله أكثر من عبادة الـ 70 سنة، فنلاحظ أنه عندما وزنت عبادة السنوات الـ 70 بليالي المعصية رجحت كفة السيئات، ولكن عندما وزن هذا العمل الذي يبدو في ظاهره قليلاً، وهو تخلي التائب عن رغيفه للمسكين رجحت كفة الحسنات، ولعل أحد أسباب ذلك الإخلاص الذي كان في إعطاء التائب رغيفه للفقير المتروك، فهو قد أعطاه الرغيف في عتمة الليل ولا يعرفه أحد، بينما عبادته السنوات السبعين كان يعرفها الناس ولعلهم كانوا يثنون عليه بها فيداخلها ما يداخلها من الآفات، إن وزن العمل عند الله لا يكون بما نراه عليه، فبعض الأعمال تعظم في الميزان لأمور يسرها الله فيها، ولذلك دخلت بغي الجنة في سقايتها لكلب، ودخلت امرأة النار في حبسها لهرة، ولذلك يجب علينا أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على الناس، فلرب شخص ليس له في الظاهر من أعمال الخير إلا ما لا يذكر، وقد عمل بينه وبين ربه عملاً نال به الرضوان، ولرب شخص ظاهره الخير، ولكنه بارز الله بمعصية مقته الله بسببها، نعوذ بالله من ذلك.
هذه بعض الدروس المستفادة من هذه الحكاية، وفيها لو أردنا الاستطراد غير ذلك، ولكن في ما ذكرناه كفاية إن شاء الله.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، اللهم آمين.

2010/08/20

ثمامة ودرس في المبادرة


روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ ‏خَيْلاً قِبَلَ ‏ ‏نَجْدٍ ‏ ‏فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ ‏ ‏بَنِي حَنِيفَةَ ‏يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ‏فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فَقَالَ ‏مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ‏ ‏فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ‏ ‏قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ‏ ‏ ثُمَامَةُ ‏ ‏فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ ‏ ‏فَانْطَلَقَ إِلَى ‏ ‏نَجْلٍ ‏ ‏قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏ ‏رَسُولُ اللَّهِ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏قَالَ لَهُ قَائِلٌ ‏ ‏صَبَوْتَ ‏ ‏قَالَ لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ ‏ ‏مُحَمَّدٍ ‏ ‏رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ ‏ ‏الْيَمَامَةِ ‏ ‏حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ ‏ ‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سنقف وقفة مع مسألة واحدة في قصة ثمامة رضي اله عنه فيها درس عظيم يجب أن نتعلمه من هذه القصة.
أنظروا إلى موقف ثمامة الذي انتقل إليه خلال وقت قصير منذ أن دخل في الإسلام:
كان ثمامة رضي الله عنه ذاهبًا إلى مكة لأداء العمرة عندما وقع في أسر المسلمين، ثم أسلم، ففهم فورًا أن من واجبات التزامه بهذا الدين أن ينقاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم انقيادًا تامًّا وأن يكون جنديًا طائعًا عنده، ولذلك لم يكمل طريقه إلى مكة لأداء العمرة إلا بعد أن استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعندما وصل مكة، وكان خبر إسلامه قد سبقه إليها، فهو لم يكن من الناس المغمورين، بل كان سيدًا من سادات قبيلته بني حنيفة، ففي رواية مسند أحمد للحديث قال أن الخيل جاءت "برجل من بنى حنيفة، ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة"، وكان المشركون يترصدون أخبار من يدخل في الإسلام، فعيروه بإسلامه، وقالوا له :"صبوت"، أي تركت دين آبائك وأجدادك، ونحن نعلم مقدار تمسك أهل الجاهلية بما كان عليه آباؤهم حتى لو كانوا يعلمون أنه الباطل، وقد ذكر الله تعالى عندهم أنهم كانوا يحتجون على تمسكهم بما هم عليه من عبادة الأوثان بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك:"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ" [الزخرف ٢٣].
فتعيير العربي بأنه ترك ما كان عليه آباؤه كان أحد أساليبهم في الضغط عليهم لردهم عن اتباع الإسلام، المهم ماذا كان موقف ثمامة رضي الله عنه من ذلك؟!
أنظروا ما الموقف الذي اتخذه الصحابي الجليل ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، لقد قال لهم:"ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".
نعم، فمكة كما نعلم أرضٌ غير ذات زرع، وقوتها وميرتها تأتيها من بقية أماكن الجزيرة العربية، وكان القمح يأتيهم من اليمامة، ففي إحدى روايات الحديث قال الراوي عن اليمامة:" وكانت ريف مكة"، واليمامة موطن قبيلة بني حنيفة والتي كان ثمامة سيدًا من ساداتها، فإذا قرر ثمامة أن يمنع عنهم الميرة ويقطع طرق تزويدهم بالقمح فهو يحاصرهم حصارًا اقتصاديًا له أثر كبير عليهم.
وقد أخرج البيهقي الحديث في سننه الكبرى وجاء فيه:"وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
لقد وجد ثمامة رضي الله عنه نفسه في موقع يستطيع من خلاله خدمة دينه، والدفاع عن نبيه، وإضعاف المشركين، فقرر فرض هذا الحصار الاقتصادي، وهذا الموقف الذي أخذه ثمامة، أن يبادر ويفرض حصارًا اقتصاديًا على مشركي مكة درسٌ يجب أن نتعلم منه، فكثيرًا ما يجد الواحد منا نفسه في موضع يستطيع الدفاع فيه عن دينه أو عن إخوانه المسلمين، لربما بكلمة أحيانًا لو قالها لخففت البلاء عن أحد إخوانه، أو بنصيحة لو أزجاها لمنعت أخاً له من الوقوع في المعصية، فما الذي يمنعنا من ذلك؟؟!
للأسف لقد تربينا على "الأنانية" و"السلبية" وأن لا نفكر بأكثر من ذواتنا، قلما تجد عند الناس روح المبادرة والإيجابية، ترى أحدهم ينتقد الحكام وظلمهم ويقول يجب أن يتم تغيير هؤلاء فإذا دعوته للانضمام إلى جماعة تسعى لتغييرهم وإقامة حكم إسلامي وجدته يهرب، فهو يريد أن يتم التغيير ولكنه لا يريد أن يبذل جهدًا في ذلك، وترى آخر يقترح عندما يحدث حدث ما كمجزرة في فلسطين أن يخرج الناس للاحتجاج، وعندما تقام مسيرة لأجل ذلك لا يفكر مجرد تفكير بالمشاركة فيها.
إننا بحاجة إلى أن نخلع رداء السلبية هذا، وأن نصبح مثل الصحابي الجليل ثمامة رضي الله عنه في إيجابيته ومبادرته.
التغيير لا يصنعه إلا المبادرون، الذين تحترق قلوبهم عندما يرون الضلال والاعوجاج فيسارعون لتقديم ما يستطيعون، ولننظر إلى مخلوق آخر من المبادرين الذين ساهموا في تغيير الواقع حولهم، ذلك هو الهدهد الذي خلد الله تعالى ذكره في سورة النمل، فهو قد رأى قوم سبأ يعبدون الشمس من دون الله فهاله ذلك، وسارع إلى نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم قائلاً:"أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ."[النمل22-26].
لم ينتظر الهدهد أوامر من أحد أو حتى سؤالاً من سليمان صلى الله عليه وسلم، وإنما شعر عندما رأى القوم على الشرك أنه يجب أن يبادر ويقوم بخطوة، وكانت الخطوة التي يقدر عليها إبلاغ نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم بذلك، فأدت مبادرته إلى دخول الملكة وقومها في الإسلام.
ومثل ذلك موقف الجن الذين قص الله تعالى علينا قصتهم في سورة الأحقاف، فقال:"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ" [الأحقاف٢٩]. فنلاحظ في الآية أن الأحداث جاء تعقيبها بحرف الفاء الذي يفيد الفورية، فهم فور أن استمعوا إلى القرآن وأدركوا صدقه، وفور أن قضيت قراءته " وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ" لم ينتظروا، بل شعروا أن واجبهم هو التحرك الإيجابي المبادر لإنذار قومهم.
وكما قلتُ فالتغيير لا يصنعه إلا المبادرون، ولنقف لحظة مع الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله عندما دخل امتحان القَبول في دار العلوم وسأله الممتحنون عن أكثر بيت أعجبه من المعلقات العشر التي كان يحفظها، فكان جوابه أنه بيت طرفة بن العبد الذي يقول فيه:
إذا القوم قالوا: من فتًى؟ خلت أنني عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
وكان طوال حياته رحمه الله سائرًا على هذا النهج، يخال أنه لا يجب حمل هم الأمة إلا عليه، ولم يكن ينتظر غيره ليفعل ذلك، فكان أن ترك هذا الأثر العظيم في الأمة وأحدث فيها التغيير الذي لا يزال مستمراً وسيصل بمشيئة الله حتى يحقق أهدافه.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا روح المبادرة وأن يجعلنا من عباده الإيجابيين الفاعلين.

2010/08/11

التقوى

بين الله تعالى لنا في الآية التي فرض فيها علينا الصيام السبب الذي من أجله فُرضَ الصيام على الأمة، ألا وهو تحقيق التقوى فقال تعالى[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [البقرة 183].
وكلمة "لعل" قال العلماء فيها أنها تكون ترجيًا وتكون بمعنى "كي"، وقيل هي كلمة ترجيةٍ وتطميع أي كونوا على رجاء وطمع أن تتقوا بعبادتكم عقوبة الله تعالى أن تحل بكم.
إذًا فالمقصود من الصيام تحقيق التقوى، وحتى نحققها فلا بد من أن نعرف: ما معنى التقوى؟ وكيف نتحقق بها؟ وكيف يساعدنا الصيام على التحقق بها؟
معنى التقوى
كلمة التقوى مشتقة من الوقاية، ونحن نعلم أن معنى الوقاية هو أن تتخذ الإجراءات التي تجعل بينك وبين ما تخافه حاجزاً يمنع من وصول أذاه لك، فقد جاء في لسان العرب في مادة "وقي" :وَقَيْتُ الشيء أَقِيه إذا صُنْتَه وسَتَرْتَه عن الأَذى، ووقاه ما يَكْرَه ووقَّاه: حَماهُ منه.
فالأولاد الصغار يعطون الطعم لوقايتهم من الأمراض، والجنود يلبسون الدروع الواقية لوقايتهم من أسلحة أعدائهم، وعندما يقال "اتق دعوة المظلوم" فالمفهوم هو أن لا تظلم أحدًا حتى لا يكون هناك مظلوم يدعو عليك، وبذلك تحمي نفسك من دعوة المظلوم.
هذا المعنى هو الذي وضحه أبو هريرة رضي الله عنه عندما سأله رجل: ما التقوى؟
فقال: أخذتَ طريقا ذا شوك؟
قال: نعم.
قال: كيف صنعت؟
قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه.
قال: ذاك التقوى.
والمعنى أن السائر في دروب الحياة يسير في طريق مليئة بالأشواك والحفر والمطبات، فالذي يريد أن يسلم خلال سيره عليه أن يكون كالسائر في أرض مليئة بالشوك والحسك، يشمر عن ثيابه، ويجتهد ليبتعد عن كل ما يمكن أن يؤذيه.
فالتقوى إذا هي أن نقوم بالإجراءات اللازمة لنتقي غضب الله وعذابه، ويكون ذلك بأمرين سلبي وإيجابي.
أما السلبي فهو في ترك ما نهى الله عنه واجتناب المعاصي.
وأما الإيجابي فيكون في أداء ما افترضه الله تعالى على العبد من واجبات ومندوبات.
وهذا هو جواب السؤال : كيف نتحقق بالتقوى؟
وقد سئل علي رضي الله عنه عن التقوى فقال للسائل أنها : الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل
وكلامه هذا رضي الله عنه هو في تعريفنا كيفية التحقق بالتقوى، ونقطة البداية تكون في "الخوف" لأنه الدافع الأساس للابتعاد عن كل ما يُغضب من تخافه، والله تعالى وصف عباده المتقين في سورة [الأنبياء] بقوله ( الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) ، وقرر في سورة [فاطر18] أن الذين يستجيبون للإنذار هم هؤلاء فقال تعالى ( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) ، وهؤلاء هم الذين يتأثرون بالقرآن فقد وصفهم في سورة [الزمر २३] بقوله ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) ، ووعدهم بالمغفرة في [سورة الملك 12] فقال ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير).
وهذا الخوف وهذه الخشية يفترض بهما أن تدفعا الذي يخشى الله ليعمل بالتنزيل أي يطبق أوامر الله التي جاءت في كتابه، سواء كانت أوامر بالترك للمعاصي أو بالفعل للأوامر والمندوبات.
ومن لوازم التقوى حسب وصف علي رضي"الرضا بالقليل" لأن التقلل من الدنيا من أكثر ما يساعد على اجتناب الوقوع في المعصية، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى ابن عمر رضي الله عنهما بقوله " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ، وعابر السبيل يجب أن يكون متقللاً من الأحمال ليسهل عليه السفر.
أما كيف يساعد الصيام على التحقق بالتقوى؟
فالصيام معسكر تدريبي سنوي، يدخله المؤمن ليتدرب على تقوية إرادته، فهو ممنوع خلاله من إشباع شهواته في أوقات معينة، وقد جعل الله هذه الأشياء الممنوعة عليه من النوع الذي يمكن فيه عدم الامتناع والمرء بعيد عن أعين الناس، إذ كثيرون قد يمتنعون عن إتيان المنهيات ليس لقناعتهم أو قوة إرادتهم وإنما لخوفهم من الناس وكلامهم، ورغبتهم في تحصيل الثناء، فيكون الدافع عندهم شيئاً غير "الخوف من الله والرغبة في طاعته"، ولذلك جعل الله تعالى المنهيات في الصيام أموراً يستطيع المرء القيام بها بعيدًا عن أعين الناس دون أن ينتبهوا إليه، فيمكنه أن يأكل ويشرب ويأتي شهوته ويُريَ الناس خلاف ذلك، ولذلك جعل الله تعالى الصيام خاصًا له، وهو الذي يجزي به، لأنه أمر بين العبد وربه، لا يتدخل فيه أحد، ولا يمكن لأحد معرفة حقيقة أداء الآخر له من عدمها.
هذا الامتناع عن الشهوات بمحض إرادة الإنسان هو الذي يساعده لتدريب إرادته على الامتناع عن المعاصي والشهوات في غير رمضان.
إن المسلم إذا عود نفسه على الصيام، وجاهدها لتمتنع عن شهواتها، فامتنع عن الطعام والشراب والجوع يقرصه، وحر الصيف يحرقه، فإن أول ما يجب أن يدركه هو أن لديه القدرة على مقاومة بقية الشهوات، ومشكلتنا أن كثيرًا من الناس لا يحاولون الامتناع عما هم فيه من معاصٍ أو عادات سيئة، وإذا فكروا أو نبههم أحد إلى ضرورة الامتناع عن ذلك كان الجواب الحاضر الذي يوسوس لهم به الشيطان أن ذلك خارج قدرتك واستطاعتك، فالشيطان بوسوسته يحاول زعزعة ثقة المرء بنفسه، بإقناعه بعدم قدرته على تغيير عاداته، ويأتي رمضان في مثل هذه الأيام والحرارة لاهبة، والنفس تتعطش لشرب رشفة من الماء، ويكون الواحد منا خاليًا ليس معه من البشر أحد، والماء البارد في متناول يده، ومع ذلك يمتنع عن شربه خوفًا من الله والتزامًا بما أمر الله به.
إن هذه التجربة رسالة يريدها الله ويريد منا أن نعزز ثقتنا بأنفسنا وأن ندرك أن الذي يستطيع ذلك في رمضان يستطيع الامتناع عن اتباع شهواته والصبر على ذلك، فقوة إرادة الإنسان غريبة، ولكنها بحاجة إلى اكتشاف.
فلننظر إلى رمضان على أنه معسكر تدريبي، ولنعزز ثقتنا بأنفسنا، وأنا واثق بمشيئة الله أننا سنستطيع اكتشاف ما نتمتع به من قوة إرادة تعيننا بتوفيق الله على مقاومة شهواتنا وكبح أنفسنا عن اتباع معاصينا.
اللهم أعنا على ذلك وتقبل منا صيامنا وقيامنا، واجعل ذلك خالصًا في سبيلك
.

2010/08/05

مقال لكاتب صهيوني عنوانه"وهم الضفة الغربية"

المقال التالي يمثل قراءة صهيونية للواقع في الضفة الغربية تعترف بالخوف من القادم
وهم الضفة الغربية
بقلم: د.مناحيم كلاين
هآرتس 4/8/2010
محمود عباس وسلام فياض عزيزان على اسرائيل والجماعة الدولية। ما عادا يريان شاغلي منصبين يتعلقان بظروف الزمن والمكان بل علامتين تجاريتين। فعباس يمثل بناء الدولة من أعلى الى اسفل بتفاوض فقط وعلى مراحل. ويمثل فياض بناء الدولة على مراحل من أسفل الى أعلى. وتراهما اسرائيل والجماعة الدولية خالدين.
لا يهم كيف نعرف هذا التصور – قد يكون خطأ أو خواطر أو تصورا مخطوءا – يجب أن نستعد لليوم الذي بعد عباس وفياض لأنه يظهر في الأفق. وظروف الزمن والمكان تفضي الى هذا الاستنتاج. فالتفاوض الذي يتمسك به عباس جدا لا يفضي الى نتائج بل الى خيبات أمل فقط عند الفلسطينيين. وليس لادارة أبي مازن لا تأييد ديمقراطي ولا شرعية سياسية. ومجلس الشعب لا يعمل، والرئيس أنهى الولاية ولا انتخابات في الأفق. أما الضوء الاخضر للتفاوض غير المباشر مع اسرائيل فأعطته الجامعة العربية لا ممثلون منتخبون للجمهور الفلسطيني. وقد جرى أهمال استقلال القرار الفلسطيني – وهو الركن الذي أسست عليه فتح وناضلت منظمة التحرير من أجله. على نحو يشبه السنين 1937 – 1948، السياسة الفلسطينية هي نتاج قرار عربي عام. مع عدم وجود شرعية مؤسسية ديمقراطية تعتمد السلطة الفلسطينية على قوات الأمن، وتعتمد هذه على الحراب الاسرائيلية، والتدريب الامريكي والمساعدة المالية من الغرب. بل إن القليل الذي أحرزه عرفات فيما يتعلق بالتحرر من الاحتلال الاسرائيلي والتعلق بالجهات الاجنبية قد ضاع.

السيطرة على المنطقة ج هي مفتاح نجاح نهج فياض. نجح فياض بمساعدة ضغط دولي في أن يشق من هناك عدة شوارع وأن يبني عدة مبان عامة. لكن سيطرة اسرائيل على هذه المنطقة بقيت غير مقوضة. يخدم فياض اسرائيل بأنه يحسن لدرجة ما أداء المؤسسات الفلسطينية في المنطقتين أ و ب. وهكذا يعزز زعم اسرائيل ان الفلسطينيين أسياد مصيرهم.

حتى لو مكنت اسرائيل فياضا من زيادة مدى عمله في المنطقة ج فلن يفضي ذلك الى انشاء دولة فلسطينية في أكثر الضفة الغربية؛ فمن أجل هذا يجب على اسرائيل أن تمكن مئات آلاف الفلسطينيين من السكن في المنطقة ج. أما في الواقع فان هذه المنطقة محفوظة للمستوطنين. والى ذلك، وعلى حسب تقرير نشره مؤخرا الخبير الامريكي البروفسور نتان براون، نجاح فياض في بناء مؤسسات في المنطقتين أ و ب أقل كثيرا مما يبدو في واشنطن والقدس.

إن التحسين الذي طرأ على مدخولات الفلسطينيين نتاج تسهيل الحركة وازالة بعض الحواجز مضلل. فلا يعبر عن حرية وتقدم أكبر نحو استقلال فلسطيني. إن هذا التحسن تم إحرازه نتاج شحذ الحراب الفلسطينية وزيادة التعاون مع اسرائيل. يحسن ان نتذكر أيضا ان انتفاضتي 1987 و 2000 نشبتا بعد سنة أو اكثر من زيادة المدخولات والعمل.

إن فرض عباس أن يقدم اليه الرئيس اوباما الدولة الفلسطينية على طبق فضة من غير ان يضطر الفلسطينيون الى النضال من أجل تحريرهم، لم يثبت وهو على شفا انهيار. ان اسرائيليين من اليسار، يعتقدون أن فياضا استدخل دروس الصهيونية العملية، يرون أنفسهم في واقع الأمر. تمتعت الصهيونية برعاية بريطانية وبامكان انشاء مجتمع مواز للمجتمع الفلسطيني. وليس لفياض حرية عمل مشابهة ولا مؤخرة من الجاليات الفلسطينية تحول الى فلسطين مهاجرين وأموالا. إن جهاز السيطرة الاسرائيلي الذي بدا مستقرا جدا وربما خالدا هو في واقع الامر جهاز يعيش على وقت مستعار.

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...