2010/08/23

صاحب الرغيف

روى أبو بردة بن أبي موسى الأشعري أنه لما حَضَرت أبا موسى الوفاةُ قال: يا بَنيّ اذكروا صاحب الرغيف، كان رجلٌ يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة , لا ينزل إلا في يوم واحد.
قال: فشُبِّه أو شبه الشيطان في عينه امرأة، فكان معهما سبعة أيام أو سبع ليال، ثم كشف عن الرجل غطاؤه، فخرج تائباً وكان كلما خطا خطوة صلى وسجد.
فآواه الليل إلى دكان عليه اثنا عشر مسكينا، فأدركه الإعياء، فرمى بنفسه بين رجلين منهم , وكان ثَمَّ راهبٌ يبعث إليهم كل ليلة أرغفة فيعطي كل إنسان رغيفاً، فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفاً, ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائباً فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفاً, فقال له المتروك: مالك لم تعطني رغيفي؟
فقال: تراني أمسكت عنك؟ سل هل أعطيت أحداً منكم رغيفين؟
قالوا: لا.
فقال: والله لا أعطيك الليلة شيئاً.
فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه فدفعه إلى الرجل الذي تُرك.
فأصبح التائب ميتاً، قال: فوزنت السبعون بالسبع ليال، فرجحت الليالي، فوزن الرغيف بالسبع الليالي فرجح الرغيف، فقال: أبو موسى: يا بني اذكروا صاحب الرغيف.
[الحكاية أخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه، باب ما ذكر في سعة رحمة الله تعالى، ح33546، وأبو نعيم في حلية الأولياء، ح 916، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة 1/100.]

هذه الحكاية التي قصها الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه تحوي الكثير من الدروس والعبر التي تستفاد منها، أحببت أن نقف عند بعضها في هذه الأيام الفضيلة.
نلاحظ فيها بدايةً حرص أبي موسى على أبنائه وتنبيههم إلى طرق الخيرات وتوجيههم إلى ما يقربهم من الله، فالإسلام قد حث الآباء على توجيه أبنائهم وتربيتهم، وها هو أبو موسى يحرص على ذلك مع أبنائه، وليت كل واحد منا يقوم بهذا الدور المهم، فواجب تربية الأبناء وتوجيههم هذه الأيام ألزم من أي وقت مضى، ذلك أن الآباء يزاحمهم في عملية التربية الكثيرون، فالتلفزيون والانترنت وأصدقاء المدرسة والشارع والمناهج الدراسية التي تحوي أحيانًا بعض السم مدسوسًا في الدسم، كل ذلك يساهم في تربية أبنائنا، فإن لم نقم نحن بدورنا فلمن سنتركهم؟؟
درس آخر نستفيده من هذه الحكاية هو أن الشيطان يتربص بالإنسان ولا ييأس منه، وهو يبذل جهده الأكبر مع السائرين في طريق الله، فهذا الرجل عبد الله سبعين سنة، ومع ذلك كان الشيطان وراءه لم ييأس منه، فالشيطان كاللص، هل رأيتم لصًّا يحرص على سرقة منازل الفقراء المعدمين؟؟ اللصوص يحاولون سرقة منازل الأغنياء، والشياطين تحاول إضلال الأتقياء، ولذلك فيجب أن لا يغتر أحد منا بكثرة عبادته، فيظن أنه نال بها العصمة، فهذا العابد قد فُتِن بعد تعبده 70 سنة ولذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:" لا تقتدوا بالأحياء، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
ومما يستفاد من هذه الحكاية كذلك أن باب التوبة مفتوح، فمهما كان الخطأ الذي وقع فيه العبد، فإن الله "يغفر الذنوب جميعًا"، ومن وساوس الشيطان أنه يأتي للعاصي فيجعله ييأس من رحمة الله ومغفرته، ولعل يأسه هذه يكون ذنبًا أعظم عند الله من كل ذنب، وهناك قصة لطيفة في مسألة التوبة بعد مواقعة المعاصي رواها الخطيب البغدادي في "تاريخه" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن إبراهيم بن شيبان قال: كان عندنا شاب عبد الله عشرين سنة فأتاه الشيطان فقال له: يا هذا أعجلت في التوبة والعبادة وتركت لذات الدنيا، فلو رجعت فإن التوبة بين يديك. قال: فرجع إلى ما كان عليه من لذات الدنيا، قال: فكان يوما في منزله قاعدا في خلوة فذكر أيامه مع الله فحزن عليها وقال: أَتُرى إن رجعت يقبلني؟! قال: فنودي يا هذا، عبدتنا فشكرناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
أما الدرس الأخير الذي سنقف عنده فهو حول أوزان الأعمال عند الله، فنحن نلاحظ من الحكاية أن خلق الإيثار والتواضع كان له من الوزن عند الله أكثر من عبادة الـ 70 سنة، فنلاحظ أنه عندما وزنت عبادة السنوات الـ 70 بليالي المعصية رجحت كفة السيئات، ولكن عندما وزن هذا العمل الذي يبدو في ظاهره قليلاً، وهو تخلي التائب عن رغيفه للمسكين رجحت كفة الحسنات، ولعل أحد أسباب ذلك الإخلاص الذي كان في إعطاء التائب رغيفه للفقير المتروك، فهو قد أعطاه الرغيف في عتمة الليل ولا يعرفه أحد، بينما عبادته السنوات السبعين كان يعرفها الناس ولعلهم كانوا يثنون عليه بها فيداخلها ما يداخلها من الآفات، إن وزن العمل عند الله لا يكون بما نراه عليه، فبعض الأعمال تعظم في الميزان لأمور يسرها الله فيها، ولذلك دخلت بغي الجنة في سقايتها لكلب، ودخلت امرأة النار في حبسها لهرة، ولذلك يجب علينا أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على الناس، فلرب شخص ليس له في الظاهر من أعمال الخير إلا ما لا يذكر، وقد عمل بينه وبين ربه عملاً نال به الرضوان، ولرب شخص ظاهره الخير، ولكنه بارز الله بمعصية مقته الله بسببها، نعوذ بالله من ذلك.
هذه بعض الدروس المستفادة من هذه الحكاية، وفيها لو أردنا الاستطراد غير ذلك، ولكن في ما ذكرناه كفاية إن شاء الله.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، اللهم آمين.

هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيك يا ابو خيري نتمنى منكم اعطاء درس بهذا الخصوص في المسجد لكي تعم الفائدة على الجميع

    ردحذف
  2. قصة ولا اجمل منها والعبر فيها كثيرة وفي مكانها ومناسبة في وقتنا هذا نتمنى من الجميع ان يستفيد منها

    ردحذف

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...