2010/08/26

حق التلاوة

"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[البقرة 121]
التلاوة كلمة تأتي بمعنى قراءة القرآن، قال في لسان العرب "تَلَوْت القرآن تِلاوةً: قرأْته، وعم به بعضهم كل كلام". وقال:"تَلا يَتْلو تِلاوَة يعني قرأَ قراءة".
ولكن الملاحظ وكما في كثير من كلمات اللغة العربية والتي يكون لها عدة معانٍ تختلف باختلاف سياقها أن معنى كلمة "تلا" أشمل من معنى القراءة، فقد جاء في لسان العرب كذلك أن من معاني كلمة "تلا" الاتباع والتخلف والتأخر، يقال:"تَلَوْته تُلُوّاً: تبعته" ، ويقال:"تَلا عَنِّي يَتْلُو تُلُوّاً إذا تركك وتخلَّف عنك" ويقال:"تَلا إذا اتَّبع، فهو تالٍ أَي تابعٌ. .. وتَلا إذا تخلَّف .. وتَلا إذا تأَخر" فكأن التالي في هذه المواقف يتبع المتلوَّ، ويتخلف عنه أي يجيء خلفه، ويتأخر عنه وهو من علامات الاتباع إذ التابع متأخر عن المتبوع.
هذه المعاني يجب أن نستحضرها عندما "نتلو القرآن"، فليست التلاوة مجرد القراءة والنطق بالألفاظ، ولذلك فهم أهل التأويل من العلماء من قوله تعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" أنهم الذين يتبعونه حق الاتباع، قال الطبري:"بـمعنى: يتبعونه حقّ اتبـاعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أَثَره"، ونقل في ذلك أقوالاً عن السلف رضي الله عنهم تدور كلها في نفس السياق، منها:
قال ابن عبـاس:"يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفونه".
وقال عبد الله ابن مسعود:"والذي نفسي بـيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرّف الكلـم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً علـى غير تأويـله".
وعن مـجاهد قال:"يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ عَمَلاً به".
وقال قـيس بن سعد:"يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: يتبعونه حقّ اتبـاعه ألـم تر إلـى قوله:"وَالقَمَرِ إذَا تَلاها" يعنـي الشمس إذا تبعها القمر".
و "حَقَّ تِلاَوَتِهِ" فيه مبـالغة فـي صفة اتبـاعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال: إن فلانا لعالـم حَقّ عالـم، وكما يقال: إن فلانا لفـاضلٌ كلّ فـاضل، فالمقصود كما يقول الطبري:"مدح التلاوة التـي تلوها وتفضيـلها".
نعم لقد ذكر بعض المفسرين أن معنى "حق تلاوته" أي حق قراءته، وذكروا في ذلك وجوهًا منها:
· أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما.
· أنهم خضعوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرؤوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم.
· أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه.
· يقرؤونه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير الحق.
ومنها أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، يتضمن تعظيم ما أنزل الله والانقياد له لفظاً ومعنى، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم.
وذهب بعضهم إلى أن المقصود بحق التلاوة :"فهم مقاصد الكلام المتلو، فإن الكلام يراد منه إفهام السامع، فإذا تلاه القارىء ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو".
غير أنه وإن كانت هذه المعاني مقبولة فحق التلاوة لا يتحقق إلا بالاتباع، إذ هو المقصود الرئيس من نزول القرآن، وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال:"ما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله وما أسقط منه حرفا واحدا وقد أسقطه كله، ما ترى له في القرآن من خلق ولا عمل، وحتى أن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نَفَس واحد، والله ما هؤلاء بالقراء و لا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كان القراء يقولون مثل هذا، لا كثر الله في المسلمين من هؤلاء".
وروي عن ابن مسعود أنه قال:"أُنْزِل القرآن عليهم ليعملوا به, فاتخذوا دراسته عملاً, إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يسقط منه حرفاً, وقد أسقط العمل به".
وقد بين الله تعالى في سورة فاطر نوعية قراء القرآن الذين وعدهم بالأجر فقال سبحانه:"إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" [فاطر29-30]، وهذه الآية كان مطرف بن عبد الله يقول عنها: هذه آية القراء.
وقال الشهيد سيد قطب عن هذه الآية :"وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك، ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة، وبالإنفاق سراً وعلانية من رزق الله، ثم رجاؤهم بكل هذا (تجارة لن تبور)، فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون، ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح، يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة؛ ويتاجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة، تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم، وزيادتهم من فضل الله، (إنه غفور شكور)، يغفر التقصير ويشكر الأداء، وشكره ـ تعالى ـ كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء، ولكن التعبير يوحي للبشر بشكر المنعم تشبهاً واستحياء، فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!"
أسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن يجعل القرآن حجة لنا لا حجة علينا، اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...