2018/04/03

الأحاديث المردودة، المرسل الخفي (الحلقة 20)


الحديث المرسل الخفي

تحدثنا في الحلقات السابقة عن (5) أنواع من الانقطاع الذي يؤدي إلى تضعيف الحديث، ونتحدث اليوم – بمشيئة الله تعالى – عن النوع السادس والأخير، وهو (المرسل الخفي)

ما هو تعريف (المرسل الخفي)؟

المرسل الخفي هو: (أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يلقه، ما لم يسمع منه، بلفظ يحتمل السماع وغيره كـ قال).
وفي هذه الحالة، وفق التعريف، فإنّ راوي الحديث والشيخ الذي رواه عنه قد تعاصرا، ولكنهما لم يلتقيا، فلم يسمع الراوي من الشيخ أصلًا، ولكن اللفظ الذي أدّى به الحديث لفظٌ محتمل للسماع، فيمكن أن يتوهم الآخذون عنه أنه سمعه منه، ويظنون الحديث متّصلًا.
وقد أدخل بعضهم في صورته أن يروي عمّن لقيه ولم يسمع منه مطلقًا، وعليه فينبغي أن يكون تعريف الحديث المدلّس تدليس إسناد بأنه (أن يروي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه، موهمًا أنه سمعه منه) وأن يكون تعريف المرسل الخفي بانه (أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يلقه، أو لقيه ولم يسمع منه مطلقًا، ما لم يسمع منه، بلفظ يحتمل السماع وغيره كـ قال)

ما علاقة المرسل الخفي بـ (المدلّس)؟

ذكرنا في تعريف الحديث المدلَّس تدليس إسناد أنه (أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه).
فالنوعان يجتمعان في أن الرواية في:
·      أن الراوي لم يسمع ممن يروي عنه هذا الحديث.
·      أن الرواية جاءت بلفظٍ يوهم السماع.
ولكنهما يختلفان في أن الراويين في الحديث المدلّس قد التقيا، بينما في (المرسل الخفيّ) تعاصرا بدون أن يلتقيا أصلًا.
وقد عرّف بعض العلماء – كـ (ابن الصلاح) في مقدمته الحديث المدلّس تدليس إسناد تعريفًا يشمل معه المرسل الخفيّ، فقال في تعريفه:
هو (أن يروي عمَّن لَقِيَهُ ما لم يسمعه منه، مُوهِمًا أنَّه سَمِعَهُ منه، أو عمَّن عاصره ولم يَلْقَهُ، مُوهِمًا أنَّه قد لَقِيَهُ وسمعه منه).
وقد ذهب ابن حجر وتبعه المتأخرون بعده إلى التفريق بينهما بما ذكرناه، فجعلوا المدلّس مختصًّا بما اجتمع فيه المعاصرة واللقاء، والمرسل الخفي بما توفر فيه المعاصرة دون اللقاء.

ما الفرق بين المرسل الخفي والمرسل الظاهر؟

لفظ الإرسال يدل على (إطلاق) السند، وعدم تقييده براوٍ معروف، والمعتمد في تعريف (المرسل) أنه (ما سقط من آخر إسناده مَنْ بعد التابعي) أو بصيغة أخرى أنه (أن يقول التابعي قال رسول الله ص).
وهذا هو الإرسال الظاهر، ومعنى كونه ظاهرًا أن الأمر فيه لا يلتبس على أهل العلم، فعدم التقاء التابعي بالرسول ص أمرٌ ظاهر، ولذا فلا يصعب استنتاج وجود (انقطاع) عند وجود رواية مباشرة من التابعي عن الرسول ص.
وقد أطلق بعض العلماء لقب (المرسل) على كل حديث فيه انقطاع، وإن كان هذا ليس المعتمد في علم المصطلح بعد استقراره.
أما (المرسل الخفي) الذي نحن بصدده فإن الراويين فيه قد (تعاصرا) ولكنهما لم يلتقيا، ومن هنا يأتي (الخفاء) الذي فيه، إذا قد يتوهم الناظر في السند أنهما التقيا لوجود المعاصرة بينهما.
أو أنهما التقيا ولم يسمع الراوي من المروي عنه شيئًا من الحديث على من اشترط المعاصرة وعدم السماع، ولم يشترط عدم اللقاء.

كيف يُعرف المرسل الخفي؟

تعرف عدم الملاقاة بين الراويين بـ
·      أن يخبر هو بنفسه عن ذلك
·      أو أن يجزم إمامٌ مطّلعٌ بذلك، وهم يجزمون بذلك بناء على تواريخ مواليد ووفيات الرواة، وعلى ما وصلهم من أخبارهم.
ومن الأمثلة على الطريقة الأولى (إخبار الراوي عن عدم اللقاء):
1.     أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهو تابعي ثقة، كثير الحديث، كان يروي عن أبيه (عبد الله بن مسعود)، غير أنه لم يسمع منه شيئًا، فقد مات أبوه وهو صغير، وسأله (عمرو بن مرة): أتذكر من عبد الله شيئا؟ فقال: لا، مَا أَذْكُرُ مِنْهُ شَيْئًا.
2.     عمر مولى غفرة بنت رباح يروي عن أنس بن مالك، ويروي عن ابن عباس، ولم يسمع منهما. فقد أخرج الفريابي في (القدر، ح5) قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ، مَوْلَى غُفْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ م قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَالَ: (يَا غُلَامُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَمَّاتٍ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِنَّ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، اعْرِفِ اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ ... الخ الحديث).
ثم نقل الفريابي أنه سَمِع إِسْحَاقَ يَقُولُ: قَالَ عِيسَى: قُلْتُ لِعُمَرَ: أَسَمِعْتَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ م قَالَ: قَدْ أَدْرَكْتُهُ.
وقد قال عنه (ابن سعد): كان ثقة كثير الحديث ليس يكاد يسند وكان يرسل حديثه.
ومن الأمثلة على الطريقة الثانية (جزمُ إمام مطّلع بعدم اللقاء)
1.     أن (محمد بن المنكدر)، وهو تابعي إمام ثقة، يروي عن أبي هريرة وعن عائشة وعن غيرهم من الصحابة، وقد نص الأئمة على أن روايته عن أبي هريرة وعن عائشة مرسلة، مع أنه عاصرهما، لكنهما ماتا وهو صغير، فقد مات أبو هريرة قبل سنة (60 هـ) بقليل، وماتت عائشة سنة (58 هـ)، بينما ولد ابن المنكدر نحو سنة (54 هـ)، وتوفي سنة (130 هـ) وعمره (76 عامًا).
2.     الحسن البصري، الإمام المشهور، يروي عن علي بن أبي طالب س، ولم يسمع منه مع أنه لقيه، وقد سئل أبو زرعة االرازي: هل لقي الحسن أحدًا من البدريين؟ فقال: رآهم رؤية، رأى عثمان بن عفان وعليٍّا. فقيل له: هل سمع منهما حديثا؟ قال: لا، وكان الحسن البصري يوم بويع لعلي س ابن (14) سنة، ورأى عليًّا بالمدينة، ثم خرج عليٌّ إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، وقال الحسن: رأيت الزبير يبايع عليًّا س.

هل يعتبر ورود الحديث من طريق فيها راوٍ زائد دليلًا على الانقطاع؟

ذكر بعض أهل العلم أن من طرق معرفة (المرسل الخفي) أن يَرِدَ الحديث من بعض الطرق بزيادة راوٍ بين الراويين المظنون الانقطاع بينهما.
والحكم على الحديث بأنه منقطع من خلال هذه الطريقة مسألة مختلفٌ فيها بين العلماء، لأن زيادة الراوي كما قد تدلُّ على وجود الانقطاع، فإنها قد تكون من باب (المزيد في متصل الأسانيد)، ولذلك لا يحكم في هذه الصورة بحكم كلي جازم؛ لتعارض احتمال الاتصال والانقطاع.
و(المزيد في متصل الأسانيد)، هو أن يزيد الرَّاوي في إسناد الحديث رجلًا أو أكثر وَهْمًا منه وغَلَطًا.
وعليه فعندما يرد حديث من طريقين، وفي إحداهما زيادة راوٍ بين راويين متعاصرين، فينبغي البحث هل تدلُّ هذه الزيادة على وجود انقطاع في السند الأقصر، أم على وجود خطأ أو وهمٍ في السند الأطول.
ومثاله
حديث أبي ذر س عن الرسول ص قال (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، أما الثلاثة الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رءوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح الله له. والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم)
فهذا الحديث:
·      روي (عن منصور بن المعتمر، قال سمعت ربعي بن حراش، يحدث عن زيد بن ظبيان، رفعه إلى أبي ذر ....)
·      وروي بإسقاط (زيد بن ظبيان) من السند، فقد روي (عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي ذر...)
و(ربعي) هذا تابعي ثقة من خيار الناس، وقد سمع من عمر س، ولكن أهل هذا العلم نصُّوا على أنه لم يسمع من أبي ذر، مع أن أبا ذرٍّ مات بعد عمر، ولذلك حكموا على السند الذي سقط فيه اسم (زيد بن ظبيان) بأنه منقطع، ويكون من باب المرسل الخفي؛ لأن ربعيًّا وأبا ذرٍّ كانا متعاصرين.
أما المثال على زيادة رجل في السند ولا تدل على الانقطاع، فمثالها:
ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: (جدال في القرآن كفر).
فقد روي الحديث (عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة)
كما روي (عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة) بزيادة (عمر بن أبي سلمة) بين سعد وأبي سلمة.
وقد نصّ أهل العلم بهذا الشأن أن زيادة عمر هنا من باب (المزيد في متصل الأسانيد) وأن الحديث صحيح من رواية (سعد عن أبي سلمة) مباشرة.
وعلماء الحديث يحكمون بأن السند الناقص صحيح وليس فيه انقطاع استنادًا إلى قرائن تفيدهم غلبة الظنّ بذلك، منها أن يكون راوي السند الذي فيه حذف للراوي الزائد قد صرح بأن الراوي  روى عن شيخه بلفظ يفيد اتصال السماع، كـ (سمعت) و(حدثني) و(أخبرني)، وليس بالعنعنة، وأن يكون راوي السند الناقص أتقن من راوي السند الزائد، وهكذا.
ومدار المسألة – كما قال السخاوي – "على غلبة الظن، فمهما غلب على ظن الناقد أنه الراجح حكم به".
ما حكم المرسل الخفي؟
(المرسل الخفي) نوع من أنواع الحديث المنقطع، وهذا يقتضي أنه ضعيف؛ لنفس السبب في بقية أنواع المنقطع، وهو أن كون الراوي (المفقود من السند) مجهولًا غير مذكور أو معروف، يجعل هناك احتمالًا أن يكون راويًا ضعيفًا لا يحقق شروط الصحة من العدالة والضبط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...