2018/03/16

حكم الدعاء لمن مات على الكفر


سألني بعض الأحباب عن مسألة الدعاء بـ (الرحمة) للذين يموتون على الكفر.
ورغم قناعتي أنه ليس هناك ضرورة للتعليق على ما يتعلق بآخرة الناس، مسلمهم وكافرهم، إلا حين يتوجب ذلك لبيان حكم شرعي ضروري، إذ ليست مهمتنا أن نقضي بين الناس، ولسنا خَزَنَةُ النار، ولا حُجّابَ أبواب الجنة، ويكفينا عندما يموت شخص مسلمٌ أو غير مسلم، إن احتجنا لذكر شيء عن حياته إيجابًا وسلبًا أن نذكر ما قدّم في حياته، ونترك محاسبته على ذلك للواحد الديّان.
غير أني أجدني مضطرًّا للإجابة على هذا السؤال، التزامًا بما أُخِذَ من ميثاق على أهل العلم، وسأجعل جوابي في نقاط مختصرة قدر الإمكان، تجيب على بعض التساؤلات المتعلقة بالموضوع:

الدعاء لمن مات على الكفر بالمغفرة لا يجوز


قوله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113] واضح الدلالة في عدم جواز الاستغفار للمشركين، وهو حكم اتفق عليه علماء الأمة كلهم، فليس فيه خلاف، والذي يستغفر لهم قد خالف ما أمره الله به.
ويتساءل البعض، منهم من يرغب في التعلم، ومنهم من يريد مجرد المناكفة دون أساس علميٍّ يستندون إليه، فيقولون: الآية تقول (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، والتساؤل: كيف لنا أن نجزم بأن هؤلاء من أصحاب الجحيم، وفيهم من قدّم للبشرية خدمات مفيدة مميزة؟
والجواب على ذلك أننا مطالبون بالحكم على ظواهر الناس، وقد حكمت الشريعة أن الذي مات على الكفر هو من أصحاب الجحيم، وقد تكرر في القرآن الكريم قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48، 116]، فالمسألة من قطعيات الدين وليست من الخلافيات حتى يتم الجدال فيها بلا علم.
وآية النهي عن الاستغفار للمشركين نزلت لما رفض أبو طالب – وهو في نزع الموت – أن يُسلم، فقال الرسول (أما – والله – لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك)، وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ومما يؤكد ذلك – أيضًا – ما رواه مسلم وغيره بأسانيد صحيحة عن الرسول  أنه قال (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي).
أما لماذا لا يجوز طلب المغفرة للكفار، فإن سبب ذلك – كما قال الطبري – أن الله تعالى أخبر أنه لن يغفر لهم، فلا ينبغي للمؤمنين أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله.
وطلب الغفران لهم – كما قال الرازي – جارٍ مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده، وهذا لا يجوز.

الكفار ليسوا في مرتبة واحدة؟ والكافر يستفيد من عمله الصالح في الدنيا؟

ومع أن طلب المغفرة لمن مات على الكفر لا يجوز فإن ذلك لا يعني أن المسلمين يجعلون من مات على الكفر في مرتبة واحدة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ففي الدنيا التعامل مع الكافر المسالم غير المحارب غير التعامل مع الكافر المحارب، وهو ما علمنا إياه الله تعالى في قوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة 8-9].
وأما في الآخرة فإن الله – تعالى – لن يضيع عمل هؤلاء الذي عملوه في الدنيا، وإلا:
فلماذا جعل الله سبحانه النار دركات كما جعل الجنة درجات؟
ولماذا كان أبو طالب أخف أهل النار عذابًا؟
ألأنه عم رسول الله ؟! لا، والله، فقد كان أبو لهب عمه أيضًا، وإنما استحق هذا التخفيف عنه لمواقفه في الدفاع عن الرسول ص وهي مواقف دفعه إليها حميته وعصبيته.
وعليه فنظرتنا للكافر الذي سالم المسلمين ودعم قضاياهم، وكذلك للكافر الذي أفاد البشرة، إذ يستفيد المسلمون مما جاء به ينبغي أن تكون غير نظرتنا للذي يحارب الإسلام والمسلمين، أو الكافر الذي آذى البشرية.
مع تكرار التنبيه أن مسالمة الكافر للمسلمين أو خدمته للبشرية لا تبيح الدعاء له بالمغفرة؛ لأن هذا الدعاء عبثٌ بعد أن قضى الله في مصيره قضاءً لا يُردّ.

ضرورة الانتباه للنظرة الكلية في تقييم الناس

وهناك قضية لا يجوز أن تغيب عن أذهاننا عند النظرة للناس وتقييمهم، وهي أن تكون نظرتنا شمولية، فلكل إنسان إيجابيات وسلبيات، ولا ينبغي لنا أن ننظر إلى الإيجابيات وحدها أو إلى السلبيات وحدها، بل يجب أن نوازن ونحكم على المرء حكمًا كليًّا ناتجًا عن محصلة جمع إيجابياته وسلبياته، إذ بعض الناس لهم مواقف إيجابية يشكرون عليها، كوقوف الذين يقفون مع الشعب الفلسطيني والشعوب المضطهدة، ويدافعون عن المظلومين، أو الذين يقدمون للعلم ما يفيد البشرية، فهذا لا شكّ أنه أمر إيجابي، ولكن إذا كان أحد هؤلاء داعية للإلحاد مثلًا، وتؤدي مواقفه لإضلال الناس وخروجهم عن إيمانهم، فإن النظرة الكلية لن تكون في صالحه، إذ بدعوته الهدامة للإلحاد يكون قد دمّر ما بناه من خير وفائدة.
لقد كان في مشركي قريش من كانت له مواقف إيجابية في بعض الأحيان، كما في موقف الوليد بن المغيرة عندما أجار عثمان بن مظعون ومنع المشركين من إيذائه، ولكنّ الوليد كان له على الجانب الآخر مواقف شديدة السلبية في محاربة الدعوة الإسلامية، ولذلك لم تغفر له بعض مواقفه الإيجابية لأنها كانت مغمورة في تصرفاته السيئة، بينما كان للمطعم بن عدي مواقف إيجابية من المسلمين، ولم تكن له مواقف سيئة كمواقف الوليد بن المغيرة، ولذلك حفظ الرسول ص له ذلك، وأمر حسان بن ثابت برثائه عندما مات، وكان قد مات كافرًا.
هل يجوز الدعاء للكافر بغير المغفرة؟
بعدما سبق يمكن طرح التساؤل التالي:
ما دام الكفار، ونحن معتقدون أن مصيرهم النار لكفرهم، ليسوا في مرتبة واحدة فيها، فهل يجوز أن أدعو لأحدهم، ممن له مواقف يشكر عليها، أن يخفف الله عنه من عذاب النار؟
وهذا سؤال وجيه، وجوابه واضح من جواب الرسول  لسؤال عمه (العباس) له عن (أبي طالب) حين قال له: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال  عن أبي طالب: (هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، وقد جاء في رواية (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة)، وهذه الأحاديث صحيحة، وهي تدل على أن النبي  تشفّع لعمّه أبي طالب، وطلب من الله تعالى أن يخفف عنه العذاب يوم القيامة.
والذي أراه أن ذلك يدلُّ على أنه لا حرج علينا من أن ندعو لمن مات على الكفر، وكانت له إيجابيات بارزة، دون سلبيات تمحوها، بأن يخفف الله عنه من العذاب يوم القيامة؛ لأن تخفيف العذاب عنه يوم القيامة مما لم يرد نصٌّ شرعيٌّ يفيد بامتناعه، بينما ورد نصٌّ في امتناع الخروج من النار لمن مات على الكفر.

هل يجوز الدعاء بالرحمة؟

فإذا قلنا ذلك، فهل يجوز أن يكون الدعاء بصيغة طلب الرحمة؟
بدايةً يجب أن ندرك أن هناك فرقًا بين الرحمة والمغفرة، فـ (المغفرة) مشتقة من (الستر والتغطية)، وهي عندما تستخدم مع الذنوب تقتضي إسقاط العقاب عن الذنب المغفور أصلًا.
أما (الرحمة) فهي في الأصل رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وهي تستعمل أحيانًا تارة في الرقّة المجردة فلا يكون معها إحسان، وتستخدم في الإحسان المجرد عن الرقة، والرحمة عندما يوصف بها الله تعالى يراد بها الإحسان المجرد.
وعليه فـ (الرحمة) أعمّ من (المغفرة)، ومعانيها اللغوية تقتضي أن الذي يملك العقوبة قد (يرحم) مستحقَّ العقاب بالتخفيف من عقوبته دون إسقاط العقوبة كلها، فتخفيف العقوبة (رحمة) وليس (مغفرة)، بينما إسقاط العقوبة من أصلها فيه (رحمة) و(مغفرة).
ولكن هل يعني ذلك جواز الدعاء بـ (الرحمة) لمن مات كافرًا، وكانت له أفعال يستحق لأجلها التخفيف عنه؟
الذي أراه أنه لا ينبغي أن يكون الدعاء بالتخفيف من عقوبة أمثال هؤلاء بلفظ (الرحمة) لأنه قد أصبح لها معنًى شرعيًّا خاصًّا، هو أخصُّ من المعنى اللغوي، ويدل على ذلك قوله تعالى (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156]، فهذه الآية ذكرت أن الرحمة في الآخرة مكتوبة للمؤمنين، والحديث هنا عن الرحمة بمعناها الخاص، والذي يقارب معنى المغفرة، إذ فيه العفو عن الذنوب.
مع أني لا أميل إلى التشدد مع من يستخدم الدعاء بهذا اللفظ إن عنى به الرحمة بمعناها اللغوي، فوضوح التحريم في مسألة الدعاء للكافر بالمغفرة ليس كوضوحه في مسألة الدعاء بالرحمة بمعناها اللغوي.
ولعل مما يشهد لما أقول من عدم التشديد في المسألة أن الله تعالى قال في توجيهه بالبرّ بالوالدين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24]، ومعلوم أن الوالدين قد لا يكونا مسلمين، وهذه الآية وإن كان كثير من المفسرين ذكروا أنها منسوخة بقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113]، كما هو مرويٌّ عن ابن عباس، إلا أن منهم من أنكر النسخ،
فقد استبعد الماتريدي في تفسيره أن تكون الآية منسوخة، وقال أنه يمكن أن (تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم بعضًا، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء) اهـ، أي أنه هنا يتكلم عن الرحمة بمعناها اللغوي.
وذكر بعض المفسرين – كما نقل القرطبي – أن الدعاء للأبوين الكافرين بالرحمة الأخروية لا يجوز إن ماتا على الكفر، أما الدعاء لهما بالرحمة الدنيوية فهو جائز ما داما حيين.
والمقصد من هذه النقول أن ندرك أن من العلماء من أباح استخدام الدعاء بالرحمة بمعناها اللغوي وليس بمعناها الشرعي العرفي التعلق بالآخرة.
ومع ذلك أقول أنني لا أميل لذلك، خروجًا من الخلاف، وابتعادًا عن الشبهة، فلا أرى أن يدعى للكافر (ذي الإيجابيات) بالرحمة (بالمعنى اللغوي)، ولا أرى حرجًا في أن يدعى له بأن يخفف الله عنه يوم القيامة، كما خفف عن أبي طالب.
هذه أهم النقاط المتعلقة بهذا السؤال، فإن أصبت فيها فبتوفيق الله تعالى، وإن أخطأت فمن قصوري، وأسأل الله العفو والعافية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...