لا
ينكر أحدٌ من المخلصين في هذه الأمة عَظَمة صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – وما
قدّمه من إنجازات للأمة، وقبله، ولربما هو – في نظري – أعظم منه؛ لأن صلاح الدين
كان حسنَةً من حسناته كان هناك نور الدين محمود بن زنكي.
لقد
كان صلاح الدين من النماذج الفريدة التي مرَّت على الأمة، ولو أردنا أن نستعرض
مناقبه لما أسعفتنا عدة مقالات لإنجاز ذلك، وقد يكفي أن نشير إلى بعض ما قاله فيه
العلماء والمؤرخون:
فقد
وصفه الإمام الذهبي بأنه "كان خليقًا للإمارة، مهيبًا، شجاعًا، حازمًا، مجاهدًا،
كثير الغزو، عاليَ الهمة".
ووصف
تأثر الناس بموته، فقال "ما رأيت مَلِكًا حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محبَّبًا،
يُحبّه البَرُّ والفاجر، والمسلم والكافر".
وقال
المؤرخ الموفق الموصلي: "أتيت، وصلاح الدين بالقدس، فرأيت ملكا يملأ العيون
روعة، والقلوب محبّة، قريبًا بعيدًا، سهلًا، محّببًا، وأصحابه يتشبهون به،
يتسابقون إلى المعروف".
وقد
ذكر القاضي ابنُ شدَّاد أنه عندما مات – رحمه الله – لم يُخَلّف فِي خزانته من
الذَّهب والفضَّة إلا (47) درهمًا، ودينارًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلف مِلْكا لا دارًا
ولا عقارًا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة.
هذه
العَظَمَة الفريدة شابتها شائبة، ومثلها كان أيضًا في تاريخ نور الدين زنكي، وهذه
الشوائب يجب أن نقف عندها لنستفيد منها، فالتاريخ مرآة المستقبل، يتوجب علينا
الكشف عن عثراته لئلا نكرر الوقوع فيها، وقبل الحديث عن هذه الشائبة سأقدّم بالقول
أن الذي يتحمل مسؤوليتها بشكل رئيسي لم يكن صلاح الدين وقبله نور الدين، بل الذي
يتحمل مسؤوليته هم أهل العلم الشرعي والفقهاء في زمانهم والزمان الذي قبلهم.
عندما
مات صلاح الدين أوصى بالملك بعده لأولاده وقسم البلاد بينهم:
فأعطى
ملك الديار المصرية لولده العزيز (عماد الدين عثمان).
وأعطى
ولده الأفضل (نور الدين علي)، وهو أكبر أولاده، بلاد دمشق وما حولها.
وأعطى
المملكة الحلبية لولده الظاهر (غازي غياث الدين).
أما
أخوه الملك العادل، فقد أعطاه الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلادًا كثيرة في قاطع
الفرات.
وأعطى
حكم مناطق أخرى أقل من هذه أهمية لبعض أبناء أخيه وبني عمومته.
وقبله
كان الملك الصالح نور الدين زنكي الذي قال ابن الأثير أنه لم يَرَ في السِّيَر بعد
الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسنَ من سيرته، ولا أكثر تحرِّيًا منه
للعدل، قد أوصى بالملك بعده لولده الصالح إسماعيل، وكان صغيرًا، لم يبلغ الحُلُم،
ولما حضرته الوفاة أخذ العهد على الأمراء من بعده لولده
هذا.
كانت النتيجة لعملية (التوريث) هذه
أن عملية الإصلاح التي بدأها (نور الدين) انتكست بعد وفاته (في سنة 569 هـ)، فقد
نشبت الصراعات بين أمراء الدولة الزنكية الذين كان كلٌّ منهم يريد الاستفراد
بالوصاية على هذا الغلام الصغير، والحكم باسمه، وقامت حروب بينهم، واضطر صلاح
الدين الأيوبي للقدوم بجيشه من مصر لفض النزاع، وتولى الحكم نيابة عن ابن نور
الدين، ثم استمرت الصراعات والنزاعات حتى استطاع صلاح الدين توحيد البلاد التي
كانت تحت حكم نور الدين مرة أخرى، ودان له أمراؤها بالطاعة بعد جهد جهيد ومعارك
طويلة، وبعدها استطاع صلاح الدين تحرير بيت المقدس.
وبقيت البلاد موحدة في عهد صلاح
الدين حتى حانت وفاته، ووزع الممالك التي كانت تحت حكمه بين أولاده وأقاربه، الذين
ما لبثوا وتنازعوا، فبعد نحو سنة من وفاة صلاح الدين سار ابنه العزيز، ملك مصر،
بجيشه إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل، فحاصر البلد، ومانعه أخوه، ودافعه عنها
فقطعت الأنهار ونهبت الثمار، واشتد الحال، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمُّهُما
فأصلح بينهما، وبعدها بنحو سنة أخرى عاد ملك مصر – العزيز – وبصحبته عمه العادل –
ملك الكرك – وحاربا ملك دمشق واستوليا عليها منه.
ثم نشبت نزاعات بين ملوك الأسرة
الأيوبية، لها أولٌ ولا آخر لها، واستمرت حتى سقطت الدولة الأيوبية.
عندما أوصى صلاح الدين بالملك
لأولاده من بعده، وقسم البلاد بينهم كان يقصد – فيما نظنّ به – الحفاظَ على
استقرار المملكة؛ لأن الفقهاء السابقين ومن سار على نهجهم مقلّدًا لهم برروا
فتاواهم بقبول نقل الحكم عبر التوريث بأنه يحقق (مصلحة استقرار الحكم) ويدرأ
(الفتنة)، وهكذا صار التوريث أمرًا مقبولًا عند فقهاء السياسة الشرعية في تلك
العصور، ولم يكن صلاح الدين ولا نور الدين قبله، من العلماء القادرين على الاجتهاد
والاستنباط، رغم أنهم كانوا يحبون العلم ويقربون أهله، ولكن انشغالهم بالجهاد لم
يترك لهم إلا أن يكونا في العلم مقلدين لغيرهم، معتمدين على فتاواهم.
إن الناظر إلى سيرة صلاح الدين، ونور
الدين قبله، يجد منهما زهدًا منقطع النظير، وعزوفًا عن الدنيا وبهارجها، ورغبة في
الآخرة وعاقبتها، رغم ما كانا عليه من الملك، ثم يُصدم بأنهما – وهما في آخر مراحل
الدنيا وأول مراحل الآخرة – قد عهدا بالملك لأبنائهما، فيظن أن ذلك كان حرصًا
منهما على الملك، والذي أراه أن الورع الذي كان عندهما كان أعظم من أن يجعلهما
يستسلمان لمثل هذا الحرص لو وجدا من العلماء من يخبرهما أن اجتهاد السابقين بقبول
التوريث كوسيلة لانتقال الحكم كان مبنيًّا على تقديرهم تحقق مصلحة الاستقرار فيه،
وأن وقائع التاريخ أثبتت أن التوريث في الحكم كان من أهم أسباب الصراعات التي
أنهكت الأمة الإسلامية عبر التاريخ، وأن المَلِكَ الذي يوصي بالحكم لولي عهده
سيتحمل أمام الله تعالى نتائج ما يفعله ولي العهد هذا، ولو وجدا مثل هذا العالم
الذي يرشدهما لهذا، فلربما أوصى كل واحد منهما بالملك بعده لمن هو قادر من أمراء
مملكته على تولي الحكم بعده، ولربما أسسا بذلك لمنعطف تاريخي كان ولا زال ضروريًا
لهذه الأمة.
لقد كان نور الدين وصلاح الدين
حاكمين صالحين، ولكن النظام في عهدهما بقي كما كان قبلهما، لم تصل إليه يد
الإصلاح، ولذلك عندما يكون لدينا حاكم صالح، ويكون النظام مبنيًّا على أسس فاسدة
فلن يستمر الصلاح إلا بوجود هذا الحاكم بنفسه، بينما عندما يكون النظام صالحًا،
فحتى لو وصل حاكم طالح للحكم فإن إمكانية الإصلاح تبقى ممكنة عبر آليات المحاسبة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الدرس الأساس الذي يجب أن نعيه من
سيرة الملكين الصالحين: نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، ومن ارتكاس الدولة
بعد وفاتهما هو أن إصلاح النظام أهمُّ بمراحل من صلاح الحاكم الفرد، وهذا يحتاج
إعادة النظر في كثير من مفاهيم الفقه السياسي التي ظنها البعض من أساسيات الدين
لكثرة تردادها في كتب الفقه السياسي القديمة، وهي مهمة أهل العلم والفكر، التي يجب
أن يجنّدوا أنفسهم لها.
رحم الله صلاح الدين الأيوبي، وجزاه
عن أمته خير الجزاء، فكما أسلفت ليس هو من يتحمل مسؤولية ذلك الارتكاس في نظري،
وإنما جمود العلماء على تقليد أقوال السابقين دون إدراك مراميها وأن الاجتهاد
المبني على النظر في المصالح ينبغي مراجعته للتأكد من تحقيقه لها.
لسنا بحاجة إلى تكرار نموذج صلاح
الدين – كشخص – رغم أنه نموذج راقٍّ، ولكننا بحاجة إلى إنتاج نظام سياسي يضمن لنا
استمرار العدل والصلاح في من يرأسونه، وعندها سيكون لدينا من يسيرون على نهج صلاح
الدين رحمه الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق