الحديث المرسل
موضوعنا اليوم هو عن الحديث المرسل.
ما
هو الحديث المرسل عند علماء
المصطلح؟
لغةً: هو
اسم مفعول من "أرسل" بمعنى "أطلق"، فكأنّ المرسِل أطلق
الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف.
اصطلاحًا:
هو ما سقط من آخر إسناده مَنْ بعد التابعي.
أو هو أن
يقول التابعي قال رسول الله ص.
ومثاله:
روي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ص نهى عن بيع المزابنة.
فـ (سعيد)
تابعي، وقد روى النهي عن المزابنة عن الرسول ص وأطلق الإسناد فلم يذكر ممن سمع ذلك.
هل استخدم وصف (المرسل) في
معانٍ أخرى للحديث؟
كما أسلفنا
سابقًا فإن المصطلحات – في علم الحديث – كما في غيره من العلوم لم تستقر إلا
متأخرة، وحتى بعد استقرارها فإن بعض المصطلحات بقيت مستخدمة في علوم أخرى بمعانٍ
مختلفة عن المشهور المصطلح عليه.
والمرسل
بالمعنى الذي ذكرناه سابقًا، أي رواية التابعي عن الرسول ص مباشرة دون ذكر الواسطة بينهما هو المصطلح
المستقر للمرسل عند المتأخرين من علماء مصطلح الحديث.
أما غيرهم،
فيمكن تلخيص الملاحظات التالية عن استخدامهم لمصطلح (المرسل):
** الفقهاء
والأصوليون في كتبهم أطلقوا اسم (المرسل) على كل منقطع على أي وجه كان انقطاعه،
أخذًا من المعنى اللغوي للإرسال.
** حتى أن
بعضهم أطلق اسم (المرسل) على ما كان فيه مجهول مبهم في الإسناد، كقولهم فيه:
"فلان، عن رجل أو عن شيخ عن فلان " أو نحو ذلك.
** بعض
المحدثين جعلوا اسم (المرسل) خاصًّا بما رواه كبار التابعين عن الرسول ص، وهم التابعون الذين التقوا بجماعة من
الصحابة وجالسوهم وأخذوا عنهم، كـ (سعيد بن المسيب) و(عبيد الله بن عدي بن الخيار)
و(الحسن البصري).
أما صغار
التابعين، كـ (الزهري)، و(أبو حازم)، و(يحيى بن سعيد الأنصاري)، وأشباههم، ممن
كانت أكثر روايتهم عن التابعين ولم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين، فقد رفض
بعض العلماء تسميته مرسلًا، بل أطلقوا عليه وصف (المنقطع).
والمشهور –
كما أسلفنا – التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك.
** إذا
انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية راو لم يسمع من المذكور
فوقه، أي أن يقول تابع التابعي أو من هو دونه: قال ص، فقد سمّاه بعضهم (مرسلًا)، ومشاهير علماء
الحديث يقطعون بأن ذلك لا يسمى مرسلا، وأن الإرسال مخصوص بالتابعين.
ما هو حكم الحديث المرسل؟
الحديث
المرسل – في الأصل – حديث ضعيف مردود؛ لفقده شرطا من شروط المقبول، وهو اتصال
السند، وللجهل بحال الراوي المحذوف؛ لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وفي هذه
الحال يحتمل أن يكون الراوي الساقط من السند ضعيفًا، وهذا هو مذهب جمهور المحدثين،
وكثير من الفقهاء والأصوليين.
غير أنّ
كثيرًا من الفقهاء، ومنهم أبو حنيفة ومالك، كانوا لا يقولون بتضعيفه، بل يصححونه
ويأخذون به.
وهذا الذي
ذكرناه عن حكم الحديث المرسل مختصر يناسب موضوعنا، وإلا ففي المسألة أبحاث كثيرة،
وتفاصيل واسعة، وخلاف طويل، وجلُّ ذلك في كتب أصول الفقه، وليس في كتب المصطلح.
هل يشمل التضعيف مرسل
الصحابي؟
مرسَل
الصحابي: هو ما أخبر به الصحابي عن قول الرسول ص أو فعله، ولم يسمعه أو يشاهده؛ إما لصغر
سنه، أو تأخر إسلامه، أو غيابه، ومن هذا النوع أحاديث لصغار الصحابة؛ كابن عباس،
وابن الزبير، وغيرهما.
حكم مرسَل
الصحابي: أنه صحيح محتجٌّ به، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأن رواية الصحابة عن
التابعين نادرة، وإذا رووا عنهم بينوها، فإذا لم يبينوا، وقالوا: قال رسول الله،
فالأصل أنهم سمعوها من صحابي آخر، وحذف الصحابي لا يضر.
وقد ذهب
بعض أهل العلم لاعتبار مرسل الصحابي كمرسل غيره، إلَّا أن يصرح بأنه لا يروي إلَّا
ما سمعه من رسول الله ص أو من صحابيّ عنه؛
لأَنَّه قد يروي عن غير صحابيّ، وهو مذهب مردود، لأنّ رواية الصحابي عن غير
الصحابة نادرة، والنادر لا حكم له.
لماذا احتج عدد من الفقهاء
بـ (المرسل)؟
اعتبر
الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية عنه) المرسل مقبولًا للاحتجاج
به (عندما لا يعارضه متصل أصح منه)، بشرط أن يكون المرسِل ثقة، ولا يرسل إلا عن
ثقة. وحجتهم أن التابعي الثقة لا يستحل أن يقول: قال رسول الله ص إلا إذا سمعه من ثقة.
وقد أيدوا
ما ذهبوا إليه بما نقل عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا رويت عن عبد الله – يعني
ابن مسعود – وأسندت، فقد حدثني واحد، وإذا أرسلتُ فقد حدّثني جماعة عنه.
ما هو مذهب الشافعي في
الحديث المرسل؟
كان
الشافعي يقبل مراسيل كبار التَّابعين إذا أنضمَّ إليها ما يؤكدها، ولا يقبلها إذا
لم ينضمّ إليها ما يؤكدها، وسواء أكانت المراسيل من رواية سعيد بن المسيب أو غيره
من كبار التابعين.
وقد أجاز
الشافعي الاحتجاج بالمرسل بشروط أربعة؛ وهي:
(1) أن يكون
المرسِل من كبار التابعين.
(2) أن يكون
إذا سمى من أرسل عنه سمى ثقة، أي إذا سئل عن اسم الراوي الذي حذفه، فإنه يذكر اسم
شخص ثقة.
(3) أن يكون
الراوي المرسِل ضابطًا تام الضبط، بحيث إذا شاركه الرواة الضابطون يوافقون على
روايته.
(4) أن
يعتضد المرسَلُ بشيء يقويه، ومن ذلك: حديث آخر مسند (وفائدته التقوية عند الحاجة
للترجيح)، مرسل آخر عن غير شيوخ المرسِلِ الأول، موافقة فتوى صحابي، أو فتوى كثير
من أهل العلم.
وقد يتساءل
البعض فيقول: إذا كان في المسألة حديث مسند متصل، فالعمل يكون بالمسند المتصل، ولا
فائدة للمرسل حينها، وقد ردّ العلماء على هذا التساؤل فقالوا أن وجود المتصل
المسند يُبيّن صحة المرسل، فيكون في الحكم حديثان صحيحان، أحدهما المسند المتصل،
والآخر المرسل، ويستفاد من ذلك في الترجيح، بحيث إذا عارضهما حديث ورد من طريق
واحدة قدمناهما عليه وعملنا بهما دونه.
ماذا لو روي الحديث مرسلًا
ومتصلًا؟
إذا روى ثقةٌ حديثًا مُرسلًا، ورواه ثقة غيره مُتَّصلًا، فقد اختلف العلماء
في أي الروايتين تعتمد.
والمقصود باعتماد الرواية أي أن نعتبرها هي التي نحكم على الحديث من
خلالها.
فذهب بعضهم لتقديم الرواية المرسلة، إذ هناك احتمال كبير أن يكون وصل
الحديث وَهْمٌ ممن وصله.
وذهب آخرون إلى أن الحكم للأكثر، فإن كان الأكثر قد رووه متصلًا اعتبرنا
الرواية متصلة، وإن كان الأكثر قد رووه مرسلًا رددنا الرواية المتصلة، واعتمدنا أن
الحديث مرسل.
وذهب آخرون إلى أن الحكم للأحفظ.
والذي أراه أنه لا يمكن الحكم بشكل قاعدة إجمالية على هذه المسألة، إذ فيها
أن لدينا تعارضًا ظاهريًّا بين الروايات، فإما أن يكون الرواية في الأصل مرسلة
والوصل وهم، أو أن الرواية موصولة، والذي أرسلها اختصرها، والترجيح بين هذين
الاحتمالين يحتاج دراسة كل حديث بانفراده، إذ عوامل الترجيح تتعدد، ولا تقتصر على
الكثرة والشهرة بالحفظ، وهذه المسألة مثل مسألة زيادة الثقة، ليست مقبولة مطلقًا
ولا مردودة مطلقًا، في الأرجح والله أعلم.
ومن فروع هذه المسألة ما لو كان الراوي نفسه هو من وصل الحديث تارة وأرسله
تارة أخرى، والذي أراه فيها أن كل حالة يحكم عليها لوحدها، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق