2018/03/19

الحديث الحسن لذاته (الحلقة 12)


الحديث الحسن لذاته
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحديث الصحيح، وذكرنا أن هناك (5) شروط ينبغي توفرها للحكم على الحديث بأنه صحيح، وهي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وسلامة الحديث من الشذوذ والعلة.
وفقد أي شرط من هذه الشروط ينزل بمرتبة الحديث، إذ – كما أسلفنا – فإن الأحاديث غير المتواترة تفيدنا غلبة الظن بأنها صدرت عمّن رويت عنه، وكلما انخفضت مرتبة (غلبة الظنّ) هذه ضعفت قوة الحديث، وضعف عن أن يصلح للاستدلال به، حتى إذا وصل الحديث لمرتبة أن يغلب على ظننا عدم صدوره عن قائله، سقط الاستدلال به.
وليست هذه الشروط بنفس التأثير، بل إن بعضها قد ينجبر بتقويته بأمور أخرى.
وحديثنا اليوم عن تأثير انخفاض مستوى (الضبط) عند الراوي (العدل)، مع عدم وصوله إلى مرحلة اتصافه بأنه (غير ضابط)، وهو ما ينتج عنه (الحديث الحسن لذاته).  
ما هو الحديث الحسن لذاته؟
للعلماء في تعريف الحديث الحسن عبارات متباينة، وبعضها لا يصلح كـ (تعريف) لأنه يُدخل فيه الحديث الصحيح، فيكون التعريف غير مانع.
وبعضهم عرف الحديث الحسن لغيره، وترك تعريف حديث الحسن لذاته.
وعلى العموم فإن الحديث الحسن يأتي في مرتبة متوسطة بين الصحيح والضعيف، فهو قد ارتَقَى عن درجة الضعيف، ولكنه لم يَبلُغ درجةَ الصحَّة.
والخلل الذي ينزل بالحديث من مرتبة الصحة إلى ما هو أدنى منها هو الخلل في (ضبط) راوٍ من رواته، بشرط ألّا يختلّ الضبط لدرجة استحقاق الحديث الردّ.
وعليه فإن التعريف الأرجح والأدقّ للحديث الحسن لذاته، هو أنه:
(ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه، عن مثله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة).

فهو يشارك الحديث الصحيح في (4) من شروطه الـ (5)، ويفترق عنه في أن راوي الحديث الصحيح متميز بالضبط والإتقان، بينما (خفَّ) ضبط راوي الحديث، وقلَّ إتقانه عن مستوى راوي الحديث الصحيح، فحكمنا عليه بأنه في درجة دون درجة الصحيح، ولكن لأن أصل (الضبط) موجود عنده، مع أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، ولكنه مع ذلك يرتفع عن حال من يُعدُّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، فلذلك لم يستحق الحكم عليه بالضعف، فجعلناه في مرتبة بين المرتبتين، أو جعلناه في أدنى مراتب الحديث الصحيح.
ما هو حكم الحديث الحسن؟
الحديث الحسن يعتبر من نوع (الحديث المقبول) أي الذي يصلح للاحتجاج به، والذي يشمل الحسن والصحيح.
فالحديث الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة، ولذلك احتج به جميع الفقهاء، وعملوا به، وعلى الاحتجاج به معظم المحدثين والأصوليين، إلا من شذ من المتشددين. وقد أدرجه بعض المتساهلين في نوع الصحيح، كالحاكم، وابن حبان، وابن خزيمة، مع قولهم بأنه دون الصحيح المبين أولا.
ما هي مراتب الحديث الحسن؟
ومع مشاركة الحديث الحسن للحديث الصحيح في صلاحيته للاحتجاج به، فإنه يشاركه أيضًا في انقسامه إلى مراتبَ بعضُها فوقَ بعضٍ.
وقد نبّه الذهبي إلى أن أعلى مراتب الحديث الحسن هو ما اختلف العلماء في تصحيح حديث رواته وتحسينه، فبعض الرواة أو الأسانيد ذهب فريق من العلماء للحكم عليها بالصحة، وفريق للحكم عليها بالحُسن، وهذه الطرق تعتبر من أعلى طرق الحديث الحسن.
ومن أمثلتها:
** ما يرويه (بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده).
** وما يريه (عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده).
** وما يريه (ابن إسحاق، عن التيمي).
وأمثال ذلك.
فهي أسانيد حكم لها بعض المحدثين بالصحة، وهي تأتي في أدنى مراتب الصحيح.
وهناك مرتبة دنيا للحديث الحسن، وهي عندما يكون خلاف العلماء في الحكم على الراوي أو السند بين التحسين والتضعيف، فهذه تعتبر في أدنى مراتب الحديث الحسن.
ومن مثلتها ما يرويه (الحارث بن عبد الله)، و(عاصم بن ضمرة)، و(حجاج بن أرطاة)، ونحوهم من المحدثين.
ما معنى قول الترمذي حديث حسن صحيح؟
استخدم عدد من العلماء، وأشهرهم الترمذي في سننه، مصطلحًا يصفون فيه الحديث بأنه (حديث حسن صحيح).
وقد استشكل العلماء هذا الوصف من حيث أن الحديث الحسن يتقاصر عن درجة الحديث الصحيح، ففي الجمع بين الوصفين في حديث واحد جمع بين نفي ذلك القصور وإثباته، فكيف يجمع بينهما مع تفاوت مرتبتهما؟
وقد حاول عدد من العلماء استنباط ما قد يكون مقصود الترمذي من استخدامه هذا الوصف، ولهم في ذلك أقوال متعددة، منها:
** أن معنى ذلك أن الحديث مروي بإسنادين، أحدهما إسناد حسن، والآخر إسناد صحيح، فيقال فيه إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر.
وفي هذه الحال يكون الحديث الموصوف بذلك أعلى مرتبة من الموصوف بالصحة فقط؛ لأن مقتضى هذا الوصف أن له أكثر من إسناد مقبول، وذلك أقوى من مجيء الحديث بإسناد واحد.
غير أن هذا يَرد عليه اعتراض وجيه، وهو أن الترمذي يقول في بعض الأحاديث (وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ)، مما يعني أنه ليس له إلا إسناد واحد يدور عليه.
** أنه يعني بذلك (حسن المعنى)، فالمراد بالحسن هنا معناه اللغوي، وهو: ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده، فهو (حَسَنٌ) باعتبار المتن، (صحيح) باعتبار الإسناد، وعليه فكأنه يقول هذا حديث صحيح الإسناد حسن المعنى.
غير أن هذا التأويل يَرِدُ عليه أن الترمذي يقول ذلك في أحاديث مروية في صفة جهنم، وفي الحدود والقصاص، ونحو ذلك، وكذلك فإن من مقتضى ذلك جواز إطلاق وصف (الحَسَنِ) على بعضِ الأحاديث الموضوعة التي لها معانٍ حسنة، ولا قائلٌ بهذا من أهل العلم.
** أن هذا القول يشير إلى تردد القائل في الحكم على الحديث، هل اجتمعتْ فيه شروط الصحة أو قصَّر عنها؟! فيكون الحديث حسنًا؛ باعتبارِ وصفه عند قومٍ، صحيحًا باعتبارِ وصفهِ عند قومٍ آخرين، فعبّر بهذه العبارة، وكأنه يقول (حديث حسن أو صحيح).
وعلى هذا؛ فما قيلَ فيه حَسَنٌ صحيحٌ؛ دون ما قيل فيه: صحيحٌ؛ لأنَّ الجزمَ أَقوى من التَّردُّد.
** أن هذا الوصف يفيد تشريب الحكم بالصحة على الحديث بالحُسْن، وعلى هذا يكون ما يقول فيه (حسن صحيح) أعلى رتبة عنده من (الحسن)، ودون (الصحيح)، ويكون الحديث الموصوف بأنه (حسن صحيح) في درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن.
وقد اختار ابن حجر أن الوصف بـ (حسن صحيح) يختلف معناه عندما يكون الموصوف به حديثًا جاء بأكثر من سند، عن معناه عندما يكون الحديث (غريبًا)؛ أي له سند واحد.
فإن كان الحديث مرويًّا بأكثر من سند، ووصف بذلك، فإن معنى ذلك أنه (حسن باعتبار إسناد، صحيح باعتبار إسناد آخر).
وإذا كان له إسناد واحد، فإن معنى وصفه بذلك أنه (حَسَنٌ عند قوم من المحدثين، صحيحٌ عند قوم آخرين) أو أن قائل ذلك لم يترجح لديه الحكم بأحدهما، فهو متردد في وصفه بالحسن أو الصحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...