هكذا علمني أبي
مقدمة الكتاب
في مثل هذه الأيام قبل عشرين عامًا،
وبالضبط بتاريخ 21/3/1997 فارق والدي (خيري بن عيسى بن محمد عيد الجعبري) الحياة،
غير أن الشعلة التي كان قد أوقدها في هذه الدنيا لتنير لمن حوله الطريق لم تنطفئ.
كثيرون هم الذين يمرون في هذه
الدنيا، ولكن قلةً منهم تترك أثرًا يلمسه الناس بعدهم، وقد كان أبي – رحمه الله –
من هؤلاء القلة، فقد كان يسير على ما نصح به أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
هذا الأثر الذي تركه والدي ظهر
جليًّا في الذين كانوا حوله، من أبنائه وأقاربه، وفي الذين تعاملوا معه وعرفوه،
وإنّ من نِعَم الله تعالى التي لا نحصيها علينا ما خلّفه لنا – رحمه الله – من
سمعة طيبة لا زال عطرها يفوح رغم مرور سنين عديدة على مفارقته دنيانا.
ولد أبي سنة 1945 في أواخرها، وكان
مولده في مدينة القدس حيث كان والده (جدّي عيسى) يسكن ويعمل، إذ أن جدَّ والدي
(الحاج محمد عيد) كان قد انتقل بعائلته من الخليل إلى القدس وأقاموا فيها، ثم بعد
نكبة عام 1948 عادت العائلة إلى الخليل.
وقد تلقى والدي أول دروسه في مدرسة
الحياة من أبيه وجدّه، رحمهم الله جميعًا، فجدّي (محمد عيد) كان رجلًا قد عرك
الحياة، ورغم أنه نشأ يتيمًا فقيرًا إلا أنه كان حكيمًا عاقلًا، ولعلَّ سفره
للقتال أيام الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين، حيث غاب نحو (3) سنوات قد
ساهم في توسيع أفقه ومعرفته بالناس والحياة، وكان ذا شخصية قوية، وله مهابة يظهر
أثرها في من حوله، كما كان متدينًا، ورغم هيبته والرهبة التي كانت تصيب من يراه
إذا غضب، إلا أنه كان لطيفًا معنا، وقد توفي سنة 1974، وعمري أقل من (7) سنوات،
ولا زلت أذكر عدة مشاهد لي معه، منها مشهد كنت أقوده فيه وأمسك بيده في شارع
(السهلة) ذاهبًا إلى مكتب السيارات الذي كان لـ (جدّي عيسى)، وكان قد فقد
بصره في أواخر عمره، وأذكر كذلك مشهده وهو
مريض على فراشه في غرفته، ومشهده حين تم نقله إلى المستشفى قبل وفاته، وكان ذلك في
سيارة (الجيب) التي كانت لـ (جدي عيسى).
ومن الذكريات التي لا أنساها عنه
أننا كنا ونحن صغار نتسابق في من يذهب بالطعام إليه في منزله، فقد كان يسكن هو
وجدتي (الحاجّة رابعة) في منزل صغير لهما لا يبعد إلا قليلًا عن منزل جدّي عيسى،
وكان الأهل يرسلون لهما من الطعام الذي يطبخونه، فكنا نتسابق أيُّنا يفوز بتوصيل
الطعام إلى (سيدي الحج وستي الحجة)، ذلك أنه كان لا يُخلي منزله من حلوى (الحلقوم)
المشهورة عندنا في الخليل، ويفوز الذي يأخذ الطعام لهم ببعض حبات هذا (الحلقوم)
اللذيذ.
أما جدي (عيسى) فقد ورث الحكمة عن
أبيه، وورّثها لوالدي، ورغم أنه قد مر على وفاته (منذ سنة 1989) نحو (28) عامًا،
إلا أن سيرته العطرة لا زالت حاضرة بين من يعرفونه ومن سمعوا عنه، فلا أكاد ألتقي
بأحد ممن هم في جيله أو جيل والدي ممن عايشوهما إلا ويترحم عليهما ويلهج لسانه
بالثناء والدعاء، وقد ترك هو فيَّ أثرًا عظيمًا، إذ كنت أول أحفاده، وحاملَ اسمه،
فكان يخصني بعنايته ورعايته، وكثير من الدروس التي تلقيتها من أبي كنت قد تلقيت مبادئها
منه رحمه الله.
أما والدي، فرغم أنه لم يكمل تعليمه
المدرسي، إذ غادر المدرسة وهو في الصف الأول الإعدادي فيما أظن، إلا أنه أحسن تلقي
الدروس من مدرسة الحياة، وساعده على ذلك والده وجدّه، وذكاءٌ فطري وهبه الله تعالى
إياه، ولذلك فقد كان مبدعًا في حياته، في تربيته لنا، وسلوكه مع من حوله، وإدارته
لعمله.
لقد كان بالنسبة لي أبًا وأستاذًا
مربيًّا ومرشدًا، وكلما تقدمت في هذه الحياة وجدت نفسي أستذكر الدروس التي كان
يعلّمني إياها وأستحضرها لعلاج مشكلات كثيرة أواجهها، وخلال عملي (الدعوي) كانت
تمر بي كثير من المواقف فأجد أن أفضل الحلول لها وأحسن طرق التعامل معها هي تلك
التي علمني إياها أبي.
وقد كان لأبي في تعليمه دروسَه
منهجٌ جذّابٌ، لم يدرسه في مدرسة أو جامعة، فقد كان يلقي دروسه لنا عن طريق
حكاية ممتعة، أو مثلٍ شعبي، وكثير منها كان يعلمنا إياه بالقدوة، وهذه الأساليب هي
التي ترسخ المفاهيم والأفكار في نفوس الصغار.
أما عن قصة هذا الكتاب فإني، وخلال
وجودي في سجون الاحتلال، كنت ألقي كثيرًا من المحاضرات على شبابنا من أبناء الحركة
الإسلامية خلال منهاجنا الثقافي، وكنت حريصًا على معالجة بعض الأخطاء في التفكير
والإدارة، وعلى نقل التجارب الإيجابية للأجيال اللاحقة، وأثناء ذلك كنت أستلهم من
دروس أبي – رحمه الله – الشيء الكثير، وقد فكرت في الآونة الأخيرة في جمع تلك
المحاضرات في كتاب خاص بها، ولما بدأت بتجميع مادته مرت بي بعض المحاضرات التي كان
لما استفدته منه رحمه الله أثر واضح فيها، فأحببت أن أُفرد أبرز الدروس الحياتية
التي تلقيتها منه في هذا الكتاب تسجيلًا لهذه التجربة، ووفاءً له، ونشرًا للفائدة،
ولتعميم هذه الأفكار، والتي أظن أن الكثيرين سيجدون فيها فائدة ومتعة.
لقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه
مسلم في صحيحه (ح1631) أن الرسول ص قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ
انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ
جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)،
فأحببت أن يكون هذا الكتاب من باب (العلم الذي ينتفع منه) كما أرجو، إذ هو – وإن
كان من صياغتي – فإنه من تأليفه وإنشائه.
رحم الله أبي وآباءه، وجزاهم عنّا
خير الجزاء.
وأرجو ممن يقرأ هذا الكتاب أن لا
ينساه وإيانا من دعوة صالحة، عسى أن يشملنا الله تعالى برحمته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
م. عيسى خيري الجعبري
الخليل
7/ جمادى الآخرة/ 1438 هـ، 6/ 3/ 2017م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق