2018/03/19

من شروط الحديث الصحيح، الضبط والعدالة (الحلقة 9)


الضبط والعدالة

تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحديث الصحيح، وذكرنا أن هناك (5) شروط ينبغي توفرها للحكم على الحديث بأنه صحيح، وهي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وسلامة الحديث من الشذوذ والعلة.
وذكرنا أثناء حديثنا أن المقصود بـ (اتصال السند) هو: أن يتلقاه كل راو في السند من الذي فوقه فيه مباشرة.
وحديثنا اليوم عن شرطي (العدالة) و(الضبط) من شروط صحة الحديث.
وقبل الشروع في ذلك لدينا سؤال يجدر الوقوف عنده.
لماذا قلنا في شرط اتصال السند (أن يتلقاه) الراوي ممن هو فوقه، ولم نقل (أن يسمعه)؟
الجواب التفصيلي على هذا السؤال يأتي – بمشيئة الله – عند الحديث عن طرق (التحمّل والأداء) للعلم، أي كيفية تلقي التلميذ العلم (وهي طريقة تحمّل العلم)، وكيفية قيام الأستاذ بنقل العلم لتلاميذه (وهي طريقة أداء العلم).
أما الجواب المختصر على السؤال فهو أن تحمّل العلم (أي تلقيه، أو أخذه عمَّن حدث به)، وهو هنا (الحديث) لا يقتصر على (السماع)، فقد ذكر العلماء عدة طرق لتتلقي التلميذ العلمَ من أستاذه، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وأهم هذه الطرق هي:
(1) السماع من لفظ الشيخ. 
(2) القراءة على الشيخ ويسمى: (العرض).
(3) الإجازة؛ وهي أن يأذن الشيخ للتلميذ بالرواية عنه.
(4) المناولة، وهي نوعان: مقرونة بالإجازة؛ ومجردة عن الإجازة.
(5) الْمُكَاتبَة، أو الكتابة. 
(6) الْإِعْلَام، وهو أن يخبر الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه. 
(7) الْوَصِيَّة، وهي أن يوصي الشيخ عند موته، أو سفره لشخص بكتاب من كتبه التي يرويها. 
(8) الوِجادة، وهي أن يجد الطالب أحاديث بخط شيخ يرويها، يعرف الطالب خطه، وليس له سماع منه، ولا إجازة.
ولهذه الأنواع مباحث تفصيلية، تأتي في موضعها بمشيئة الله تعالى.
ما معنى (عدالة الراوي)؟
كما قلنا: يشترط لصحة الحديث (عدالة الراوي).
والعدل من الناس في اللغة هو (المرضي المستوي الطريقة).
أما العدالة فللعلماء فيها تعريفات منها:
** هي مَلَكَةٌ تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة؟
** هي مَلَكَةٌ تحمل صاحبها على الاستقامة في الأقوال والأفعال.
** هي هَيْئَة قارة تحمل على اجْتِنَاب الْكَبَائِر وَلُزُوم الصَّغَائِر وخوارم الْمُرُوءَة.
** هي مَلَكَةٌ مانعةٌ عن اقتراف الكبائر والصغائر الخسيسة والرذائل المباحة.
والمراد بالتقوى:
** اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة (مع الخلاف بينهم في اشتراط نفي البدعة).
** اجْتِنَاب الْكَبَائِر وَلُزُومِ الصَّغَائِر.
أما المروءة فالمراد بها:
** السير بسيرة أمثاله في زمانه ومكانه.
** التوقي عن الأدناس.
** أن لا يعمل في السر ما يستحيا منه في العلانية.
وقد عدّ السابقون من العلماء من الأمور المسقطة للمروءة في زمانهم: الأكل في السوق، والمشي مكشوف الرأس، والإكثار من الحكايات المضحكة، ولبس الفقيه قباء أو قلنسوة حيث لا يعتاد، وهي أمور تتغير بتغير الزمان والمكان، فليس بالضرورة أن تعتبر مسقطة للمروءة في زماننا، إذ المسألة لها علاقة بالعرف السائد المرتبط بـ (الزمان والمكان).
ومهما اختلف العلماء في التعبير عن مفهوم (العدالة)، فإنهم متفقون على مضمونه، وهو أن العدالة: مَلَكَةٌ تحمل صاحبها على الاستقامة في الأقوال والأفعال.
وعليه فـ (العَدْلُ) هو: المسلم البالغ العاقل السليم من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
وفقد صفة العدالة في سلسلة رواة الحديث، ولو كان واحدًا منهم، يتسبب بالحكم على الحديث بالضعف، والأحاديث المردودة بسبب وجود مشكلة في العدالة هي: الموضوع، والمتروك، والمنكر.
ما المقصود باشتراط (ضبط الراوي)؟
أصل (الضبط) في اللغة يدل على القوة واللزوم والحفظ، والضابِطُ هو الْقَوِيُّ عَلَى عمَلِه.
والمراد بـ (الضبط) عند استخدامه في مصطلح الحديث هو:
أن يسلم الراوي من الغلط الفاحش، وسوء الحفظ، والغفلة، وكثرة الأوهام، ومخالفة الثقات.
كيف يعرف ضبط الراوي؟
الحكم على الراوي ودرجة ضبطه يعتمد على مقارنة حديثه الذي يرويه بحديث أهل الضبط والإتقان، فإن وافقهم غالبًا فهو ضابط، وكلما كثرت مخالفته لهم نزلت درجة ضبطه.
ما هي أقسام الضبط؟
ليس المقصود بالضبط أن يكون المحدث حافظًا للحديث في ذاكرته، إلا إن كان يحدّث من حفظه دون الرجوع إلى كتاب.
أما إن كان يروي حديثه من كتابه، فالضبط المقصود هنا هو أن يكون ضابطًا لكتابه، وضبط الكتاب هو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه، ويُعرَف من إتقانه كتابته، ومن معرفة الراوي لكتابه واستطاعته تمييز ما سمعه في كتابه وما قد يكون زيد فيه.
والكتاب المتقن الموثق حجة عند أهل العلم، بل هو ميزان، ودليل على صحة الحفظ، ومقوم لخلله، فإن الحفظ خَوَّان، والحافظ بشر جائز عليه الوهم والخطأ، لا سيما مع طول الأسانيد.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "ما رأيت أبي، رحمه الله، حدث من غير كتاب، إلا بأقل من مئة حديث".
وقال أحمد بن حنبل: "ما كان أقل سقًطًا من ابن المبارك، كان رجلًا يحدث من كتابه، ومن حدث من كتاب لا يكاد يكون له سقط كبير شيء، وكان وكيع يحدث من حفظه، ولم يكن ينظر في كتاب، وكان له سقط، كم يكون حفظ الرجل؟".
وقد قال العلماء في تبيان معنى الضبط أن يكون الراوي (حافظًا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه)، وعليه فقد اعتبروا الضبط قسمين:
** ضبط صدر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
** ضبط كتاب.
ما حكم الحديث الذي يوجد خلل في (ضبط) أحد رواته؟
صفة (الضبط) تتفاوت من شخص إلى آخر، فبينما هناك من يتمتعون بدرجة عالية من (الضبط والإتقان) بحيث يصلحون ليكونوا معيارًا يقاس به غيرهم، تجد آخرين ينزلون عن هذا المستوى بدرجات متفاوتة.
ولأن صفة الكمال لا توجد في البشر، فإنه لا يمكن أن نجد من لا يخطئ مطلقًا، وإنما يتم الحكم على مستوى (ضبط) الراوي بحسب قلة وكثرة أخطائه؛ فبينما قد يكون هناك من لا يخطئ إلا في النادر من رواياته، ( ولنقل – على سبيل المثال – لا يخطئ إلا في أقل من 5% من رواياته)، وهذا يمكن وصفه بأنه (ضابطٌ لحديثه)، قد يكون هناك من لا يكاد يذكر رواياته على الصواب، فتراه يخطئ مثلًا في أكثر من (50%) مما يرويه، وهذا يعتبر منعدم الضبط لا يعوّل على ما يرويه، وبين هذين تجد مراتب متفاوتة، فالذي يخطئ بنسبة (10%) ليس كالذي يخطئ بنسبة (20%) وهكذا.
ولأجل ذلك فإن مراتب الحديث المقبول تتباين، فحتى الحديث الصحيح ليس بمرتبة واحدة، وذلك بسبب تفاوت رواته في صفة (الضبط)، فحديث كل رجال سنده ممن يتمتعون بالمرتبة العليا من (الضبط)، أي أن نسبة الخطأ عندهم لا تتجاوز الـ 5% مثلًا، لا يكون في مستوى صحته كحديث في رجال سنده من نسبة خطئه في حديث (15%) مثلًا، أي أن مستوى ضبطه أقل، فهذا وإن حكمنا على حديثه بالصحة إلا أن رتبته دون رتبة الأول.
ما تأثير التباين في (ضبط) الراوي على صحة الحديث؟
كما قلنا فالضبط مراتب متفاوتة، وبناء عليها يتم الحكم على الحديث، فالذين يتمتعون بالمرتبة العليا فيه يكون حديثهم صحيحًا، بينما كلما انخفضت درجة الضبط انخفضت مرتبته، حتى يصل إلى أن ينزل من رتبة (الحديث الصحيح) إلى (الحديث الحسن)، وهو حديث مقبول للاحتجاج به، ولكنه دون الصحيح في الرتبة بسبب الخلل في (ضبط) راويه، حتى إذا كان الخلل في ضبط الراوي كبيرًا انتقل الحديث من حيّز الأحاديث المقبولة (الصحيحة والحسنة) إلى حيز الأحاديث المردودة (الضعيفة).
والأحاديث التي يكون ضعفها بسبب خلل في ضبط (رواتها) أنواع عديدة، منها: المضطرب، والَمقْلُوبُ، والمدرج.
هل يمكن أن يكون (الضبط) نسبيًّا؟
نعني بـ (الضبط النسبي) أن يكون ضبط الراوي قويًّا أو ضعيفًا بالنسبة لشيء معين، كالزمن أو الأشخاص.
والضبط يمكن أن يكون نسبيًّا:
** فمن ناحية الزمن
يمكن أن يكون الراوي حافظًا ضابطًا في زمن ما، ثم يطرأ عليه ما يغير (ضبطه) مثل مرضٍ أو كبر سنّ، ومعلوم أن الإنسان عندما يدخل مرحلة الشيخوخة تضعف ذاكرته، ويقلُّ تركيزه في كثير من الأحيان، وقد يصل الأمر به إلى أن يفقد الذاكرة، وقد عبّر علماء الجرح والتعديل عن ذلك بوصف (الاختلاط).
والاختلاط آفة عقلية تورث فسادًا في الإدراك، وتصيب الإنسان في آخر عمره، أو تعرض له بسبب حادث ما، كفقد عزيز، أو ضياع مال، ومن تصيبه هذه الآفة لكبر سنة يقال فيه: اختلط بأخرة.
فهؤلاء كانوا يتصفون بـ (الضبط) في مرحلة زمنية ما، ثم فقدوا هذه الصفة في مرحلة زمنية أخرى، وقد بيّن العلماء أن حديث أمثال هؤلاء يقبل ممن أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يُدرَ هل أخذ عنهم قبل اختلاطهم أو بعده.
** ومن ناحية الأشخاص
يمكن للراوي أن يكون (ضابطًا) لحديث شخص ما من شيوخه، لطول ملازمته له مثلًا، بينما يكون (ضعيف الضبط) في ما يرويه عن شيوخ آخرين.
ومن أمثلة ذلك ما ذكر في ترجمة (أبي الحسن الواسطي)، فقد قال عنه يحيى بن معين: "ثقة في غير الزهري لا يدفع، وحديثه عن الزهري ليس بذاك، إنما سمع منه بالموسم". فهو هنا قد بيّن لنا أن حديث الواسطي هذا صحيح مقبول لأنه ثقة، وهذا يتضمن أنه ضابط لحديثه، غير أنه استثنى ما رواه عن (الزهري) فأحاديثه عن الزهري ضعيفة، وسبب ضعفها أنه لم يكن ضابطًا لها، فهو لم يكن من كبار أصحاب الزهري، وإنما لقي الزهري في موسم الحج وسمع منه تلك الأحاديث ولم يتمكن من حفظها وضبطها، واختلطت عليه تلك الأحاديث، فصار يروي عن الزهري أشياء خالف فيها سائر من روى عنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...