من أحاديث الآحاد، الحديث الغريب
حديثنا في
الحلقة الماضية كان عن نوعين من أنواع حديث الآحاد، وهما: المشهور، والعزيز،
ونتحدث اليوم – بمشيئة الله تعالى – عن النوع الثالث منها، وهو (الحديث الغريب) أو
(الفرد).
ما هو الحديث الغريب
(الفرد)؟
عرف الإمام
ابن حجر الحديث الغريب (أو الفرد) بأنه:
(ما
يتفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند).
وهنا نكرر
التنبيه لنقطة سبق ونبّهنا لها، وهي أن الوصف الذي يعطى للسند يُعتبر فيه أقل طبقة
من طبقاته.
فلو كان
لدينا حديث رواه عن الرسول ص (3) من الصحابة، ورواه عن هؤلاء الثلاثة تابعي واحد، ثم رواه (10) من
تلاميذ هذا التابعي واشتهر الحديث عنهم وانتشرت روايته، فإنه يصنف تحت نوع
(الغريب) أو (الفرد)؛ لأن إحدى طبقاته، وهي التي فيها التابعي، ليس فيها إلى راوٍ
واحد.
هل هناك فرق في الاصطلاح
بين (الغريب) و(الفرد)؟
المعتمد أن
اسمي (الغريب) و(الفرد) مترادفان، وهما يشيران إلى نفس الوصف في الحديث، وهو الذي
ينفرد بروايته راو واحد في إحدى طبقات السند.
ذلك أن
الوصف بالغريب مشتق من الغربة بمعنى البُعد، ويقال: رجلٌ غريب؛ أي بعيدٌ عن وطنه،
وبُعد الرجل عن وطنه يعني أنه منفرد عن أقاربه، ولذلك استخدموا هذين الوصفين بنفس
المعنى.
ومع أن
(ابن حجر) اختار القول بأن (الغريب) و(الفرد) مترادفان لغة واصطلاحًا، إلا أنه ذكر
أن علماء مصطلح الحديث يغايرون بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته:
** فيطلقون
وصف (الفرد) – غالبًا – على الغريب أو الفرد المطلق.
** ويطلقون
وصف الغريب – في الغالب – على الفرد النسبي.
ما هو (الفرد المطلق)
و(الفرد النسبي)، وما الفرق بينهما؟
لفظ
(الغريب) أو (الفرد) إذا أطلق حمل على الغرابة المطلقة، أو (الفرد المطلق)، وهو: ما كان
التفرد فيه في أصل السند.
أي ما
انفرد بروايته شخص واحد في أصل سنده.
وغالبًا ما
يكون الموضع الذي يدور عليه الإسناد هو طرف السند الذي فيه الصحابي.
ويطلق لفظ
الغرابة والتفرد أيضًا على (الفرد النسبي)، وهو ما حصل التفرد فيه بالنسبة إلى شخص
معين، وإن كان الحديث في نفسه مشهورا.
وعلى هذا
فالفرق بين الغريب المطلق والغريب النسبي هو أن أسانيد الغريب المطلق تتجمع في
نقطة واحدة في السند توصل إلى المتن
ملاحظة
مهمة
في تعريفه
للفرد المطلق ذكر ابن حجر، وتابعه من بعده ممن نقلوا كلامه، أنه ما كان التفرد فيه
في أصل السند، أي في الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع، ولو تعددت الطرق إليه.
ثم قال بعد
ذلك: (وهو طرفه الذي فيه الصحابي).
وهذا
البيان الذي أضافه هو بحكم الغالب، فإن الحاصل كثيرًا أن يروي الحديث صحابي واحد،
وينقله عنه تابعي واحد، ثم ينتشر عنه الحديث.
وهناك صورة
قد تكون نادرة، وهي أن يحدث التفرد في طبقة أعلى من ذلك، وذلك بأن يروي الحديث
صحابيان مثلًا، ويرويه عنهما (3) من التابعين، ثم لا توجد رواية هذا الحديث إلا من
راو واحد من تابعي التابعين، سمعه من التابعين الثلاثة، ورواه – وحده – عنهم، فهذا
يدخل في تصنيف الفرد المطلق؛ لأن (تابع التابعي) هذا، والذي انفرد برواية الحديث،
صار هو الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع إليه.
ما هي أنواع التفرد
النسبي؟
ذكر
العلماء عدة أنواع من التفرد النسبي، أو الغرابة النسبية، وهي التي يكون التفرد
فيها ليس مطلقًا، وإنما بالنسبة لشيء معين.
ومن تلك
الأنواع
** تفرد ثقة
برواة الحديث
وفي مثل
هذا يقولون: لم يروه ثقة إلا فلان، أو انفرد به فلان من الثقات
** تفرد راوٍ
معيّن عن راوٍ معيّن
مثل حديث
يرويه كثيرون من الرواة عن (عبد الله بن دينار) عن (ابن عمر)، ثم يأتي واحد من
الرواة فيرويه عن (نافع) عن (ابن عمر)، فيقال في مثل هذا: تفرد به فلان عن نافع.
ذلك أن
هناك من الأحاديث ما انتشر في منطقة معينة، كالحجاز أو الشام، لأن راويه وتلاميذه
الذين سمعوا منه عاشوا فيها، ويحص أحيانًا أن لا تكون لهذا الحديث رواية أخرى في
غير تلك المنطقة، فيكون كل الذين رووه، ولو كانوا متعددين، من أهل تلك المنطقة،
فيقال في مثل هذا: (تفرد به أهل مكة)، مثلًا، أو (أهل الشام).
** تفرُّد أهل
بلد، أو جهة عن أهل بلد أو جهة أخرى
وذلك بأن
يكون أصل الحديث مروي عن أهل المدينة مثلًا، ثم انتقل ولم يوجد له رواية إلا عند
أهل البصرة، فيقال فيه: تفرد به أهل البصرة عن أهل المدينة.
هل استخدم العلماء وصف
الحديث بالغريب بغير ما استخدمه علماء المصطلح؟
كلمة
الغريب في معناها اللغوي تطلق على (المنفرد)، ومن هنا اشتق علماء المصطلح مصطلح
(الحديث الغريب)، ولكنها تستخدم أيضًا ويراد بها الكلام الغامض البعيد من الفهم،
وهو الذي لا يتناوله الفهم إلا عن بُعد ومعاناة فكر.
ويجب أن
ننتبه أن المعاني الاصطلاحية تتغير من علم لآخر، فالكلمة التي يستخدمها أهل علم معين
كـ (علم مصطلح الحديث) بمعنًى اصطلاحي توافقوا عليه، قد يستخدمها أهل العلوم
الأخرى بمعناها اللغوي، ومن هنا ينشأ خلط لدى القارئ غير المدقق.
وعلى هذا
فقد يستخدم البعض وصف الحديث بـ (الغرابة)، ويعنون بذلك (بُعد معناه من الفهم إلا
بعد التفكر والتمعن فيه)، وقد يكون من أسباب ذلك احتواؤه على كلمات مما يصنف بأنه
من (غريب اللغة)، وهي الكلمات التي لم تشتهر في أوساط الناس فاعتبروها غريبة
لجهلهم بمعانيها.
وهناك علم
من علوم الحديث (وليس من علوم المصطلح) يسمى (علم غريب الحديث)، وقد قال عنه
الإمام ابن الصلاح في مقدمته المسماة (معرفة أنواع علوم الحديث): "وهو عبارة
عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم، لقلة
استعمالها"، ووصفه بأنه "فنٌّ مهمٌّ، يَقبُح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم
بأهل العلم عامة".
وقد ألفت
في كتب عديدة مشهورة، منها – مما هو موجود على المكتبة الشاملة – :
** غريب
الحديث، لـ (أبي عُبيد، القاسم بن سلاّم)، المتوفى (224هـ)، في (4) أجزاء.
** غريب
الحديث، لـ (ابن قتيبة الدينوري)، المتوفى (276 هـ)، في 3) أجزاء.
غريب
الحديث، لـ (إبراهيم بن إسحاق الحربي)، المتوفى (285 هـ)، في (3) أجزاء.
** الدلائل في
غريب الحديث، لـ (السرقسطي، قاسم بن ثابت)، المتوفى (302 هـ). في (3) أجزاء.
** غريب
الحديث، لـ (الخطّابي)، المتوفى (388 هـ)، في (3) أجزاء.
الغريبين
في القرآن والحديث، لـ (أبي عبيد، أحمد بن محمد الهروي)، المتوفى (401 هـ).
** الفائق في
غريب الحديث والأثر، لـ (الزمخشري)، المتوفى (538 هـ)، في (4) أجزاء.
** غريب
الحديث، لـ (ابن الجوزي)، المتوفى (597 هـ)، في جزأين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق