السلامة من العلة
تحدثنا في
الحلقة الماضية عن أن السلامة من الشذوذ شرط من شروط صحة الحديث، وكنا قد ذكرنا
قبلها أن شروط صحته خمسة، وهي: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، والسلامة
من الشذوذ، ومن العلّة.
وحديثنا
اليوم عن الشرط الخامس والأخير من شرط صحة الحديث، وهو شرط (السلامة من العلة).
ما هي العلة؟ وما هو الحديث
(المعلّل)؟
العِلَّة
في اللغة هي: الْمَرَضُ، ويقال لصاحبها (مُعْتَلٌّ) و(عَلِيلٌ).
وفي
الاصطلاح، هي: سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث.
وعليه
فالحديث المعلل في الاصطلاح هو: الحديث الذي اطُّلِع فيه على علة تقدح في صحته، مع
أن الظاهر السلامة منها.
·
ملاحظة:
القياس في
اللغة أن يقال: حديث مُعَلٌّ، أو معلول، ولكن علماء الحديث استخدموا اللفظ على غير
القياس.
ما هي شروط العلّة؟
حتى تسمى
الصفة التي تؤثر في الحديث (علّة) اصطلاحًا اشترط العلماء لها شرطان:
(1) الغموض والخفاء.
(2) القدح في صحة الحديث.
فإن اختل
واحد منهما، كأن تكون العلة ظاهرة، أو غير قادحة، فلا تسمى عندئذ علة اصطلاحًا.
ملاحظة:
· بعض العلماء يطلقون
(العلة) أحيانا على أي طعن موجه للحديث، وإن لم يكن هذا الطعن خفيًّا، أو قادحًا.
** فمن النوع الأول (الطعن
الظاهر) تعليلهم ضعف الحديث بكذب الراوي، أو غفلته، أو سوء حفظه، أو نحو ذلك.
** ومن النوع الثاني
(التعليل غير القادح بالصحة)، التعليل بمخالفة لا تقدح في صحة الحديث، كإرسال ما
وصله الثقة.
لماذا اعتبر العلماء الحكم
باعتلال الحديث أمرًا صعبًا؟
اعتبر
العلماء معرفة (علل الحديث) من أَجَلِّ علوم الحديث، وأَدَقِّها؛ لأنه يحتاج إلى
كشف العلل الغامضة الخفية التي لا تظهر إلا للجهابذة في علوم الحديث. وإنما يتمكن
منه ويقوى على معرفته أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، ولهذا لم يخض غماره إلا
القليل من الأئمة، كابن المديني، وأحمد، والبخاري، وأبي حاتم، والدارقطني.
وسبب ذلك
أن التعليل يتطرق إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، والجامع شروط الصحة من حيث الظاهر؛
لأن الحديث الضعيف لا يحتاج إلى البحث عن علله؛ إذ إنه مردود لا يعمل به.
كيف تكتشف العلة؟
سبب العلة
في الغالب وَهْمٌ وقع من راوي الحديث، وهو ثقة، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي
وبمخالفة غيره له، مع قرائن أخرى تنضمُّ إلى ذلك تُنَبّه العارف بهذا الشأن على
إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وَهْمِ وَاهِمٍ
بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من
الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه.
ويستعان
على إدراك العلة بأمور، منها: تفرد الراوي، ومخالفة غيره له، مع وجود قرائن أخرى
تنضم إلى ذلك، فيغلب على ظن العالم وجود تلك العلّة، فيحكم بعدم صحة الحديث.
ولذلك
فالسبيل إلى معرفة علة الحديث أن تُجمع طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر
بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، وقد قال علي بن المديني:
"الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".
ما هي أهم العلل التي تصيب
الحديث؟
تعليل
الحديث علمٌ فيه غموض، ولا يتمكن منه إلا الجهابذة الذين جمعوا طرق الأحاديث،
واتسعت معرفتهم بعلم الجرح والتعديل وأحوال الرواة، وتمتعوا بمَلَكة الانتباه
والإدراك لدقائق الأمور، ولذلك لم يجر تعليل الأحاديث على قانون واحد ظاهر
يستعمل فِي جمِيع الأحاديث.
وكما كنا
قد سبق وذكرنا فإن الحكم على الحديث بالصحة هو حكم بأنه (يغلب الظن) بأن الرسول ﷺ قاله، والعلة تأتي فتجعل العالم المتبحر متشكّكًا في حصول
(غلبة الظن) هذه، ولذا يمتنع من الحكم بصحة الحديث.
ومشكلة علم
العلل أن الرواة الذين يقعون في هذه الأخطاء القادحة في الحديث هم ثقات الرواة،
ولذلك قد يتسرع (طالب علم) بالحكم على حديث بأنه صحيح لأن رواته ثقات ولا ينتبه
إلى وجود (علة) مانعة من الحكم بصحة الحديث، وكما أسلفنا، فإنها لا تكتشف إلا بجمع
طرق الحديث.
أما أهم
الأخطاء التي يقع فيها الثقات وتستدعي (تعليل) الحديث، فهي:
ü وصل حديث، الصحيح فيه
الإرسال.
ü رفع حديث، الصحيح أنه
موقوف.
ü إدخال حديث في حديث.
ü إبدال راوٍ بآخر.
هل كل العلل قادحة في صحة
الحديث؟
العلة قد
توجد في متن الحديث، وقد توجد في سنده، والعلل الموجودة في الأسانيد هي الأكثر.
وقبل
الإجابة عن السؤال أعلاه نذكّر بأن علماء الحديث كانوا يعتبرون كل طريق للحديث
حديثًا منفصلًا، فلو افترضنا أن صحابيا روى حديثًا، ورواه عنه (3) من التابعين،
ورواه عن التابعين الثلاثة (10) من تلاميذهم، ورواه عن هؤلاء التلاميذ (تابعي
التابعين) (50) من الرواة، فإن العلماء يعتبرون أن هناك (50) حديثًا، مع أن
المحصلة أن المتن المروي متنٌ واحد، وهذا يفسر ما روي عن حفظ علماء الحديث لمئات
الآلاف من الأحاديث، كما روي عن البخاري أنه كان يحفظ ستمئة ألف حديث.
وعليه:
فوجود
العلة قد يؤدي إلى الحكم على الحديث كله (أي على متنه) بالضعف وعدم الصحة، فمثلًا:
إذا كان لدينا حديث رواه تابعي عن صحابي، ورواه راو واحد عن التابعي، ورواه عن
تابع التابعي (10) من الرواة، فعندنا هنا (10) أحاديث، (وفق حسابات أهل الحديث)،
فإذا كانت العلة في السند في أوله، عند تابع التابعي مثلًا، وكانت علة قادحة،
فإنها تتسبب بالحكم على الحديث بالضعف من كل طرقه.
وهناك
حالات توجد فيها العلة، وتتسبب بالحكم بالضعف على (طريق) واحدة من طرق الحديث، أو
على (عدة طرق)، وتبقى (بقية طرق) الحديث على الصحة، فيكون متن الحديث صحيحًا،
وتكون تلك الطريق ضعيفة، وفائدة ذلك أن المتن قد يختلف قليلًا بين طريق وأخرى،
ويكون في الاختلاف ما يؤدي لاختلاف الحكم المستنبط من الحديث، فبيان (الطريق
المعلل) منها وأنه ضعيف، وتمييز الطريق المحكوم له بالصحة يساعد الفقيه على
الاستدلال الصحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق