2018/03/28

من وحي غزوة تبوك


كن أبا خيثمة
إن لم تكن عثمان، فلا أقل من أن تكون أبا خيثمة.
أما عثمان فهو ذو النورين أمير المؤمنين س، لما نادى منادي رسول الله ص للتجهز إلى جيش العسرة، خرج بنفسه في الجيش، وبذل ماله لتجهيزه، حتى قال فيه رسول الله ص (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ).
نعم، الأصل والمطلوب منك أن تكون مبادرًا كـ (عثمان)، لا تركن إلى الدنيا، ولا تغريك أثقال الأرض.
ولكن أينا لديه من الإيمان أن يكون كـ (عثمان)؟؟
أينا يكون ممن يسمع نداء (انفروا في سبيل الله) فلا تشدّه أثقال الأرض؟؟
لا أزعم أن أمثال هؤلاء مفقودون، ولكنهم نادرون، أما نحن فأثقال الدنيا تجذبنا، اثّاقلنا إلى الأرض، وغرنا متاع الدنيا، ونسينا أن متاع الحياة الدنيا في الآخر قليل.
ولكن الفرص لا تنتهي، فإن لم تكن كـ (عثمان) فيمكنك أن تكون كـ (أبي خيثمة) تستدرك ما فاتك، وتلحق بالركب.
أتدرون ما هي قصة أبي خيثمة.
كان أبو خيثمة من الأنصار، من صحابة رسول الله ص، ولما خرج جيش المسلمين إلى تبوك، في الغزوة التي سميت غزوة العسرة لما رافقها من مشقة وظروف قاسية، فقد جاءت في وقت حرٍّ شديد، وحالٍ ضيّق، وكان العدو فيها دولة عظمى، بعيدة الديار، فتخلف من في قلبه ضعف عن الخروج مع رسول الله ص، وكان أبو خيثمة ممن تخلف.
بعد أيام من مسير الرسول ص إلى تبوك، رجع أبو خيثمة إلى منزله في يوم حارٍّ، فدخل حائطه والنخل مدللة بثمرها، وكانت امرأته مختضبة متزينة، وقد رشّت له العريش بالماء لتبرّده له، وهيأت له طعامًا وماءً باردًا.
نعم كانت زينة الحياة الدنيا حاضرة عنده، وأثقال الأرض تجذبه نحوها، ولكنه كان أبا خيثمة، الأنصاري، الذي تربى على مائدة رسول الله ص، والذي وإن غفل لحظة، وأدركه الضعف ساعة، فإنه لا يترك نفسه سادرّة في غيّها.
نظر أبو خيثمة إلى امرأته فأعجبته، ونظر إلى ما أعدّته له، فانتفض، نعم، هكذا هم أهل الإيمان، وصفهم الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
ما الذي تذكره أبو خيثمة حينها؟
لقد تذكر حبيبه ص الذي يسير مع جيش أصحابه عبر الصحراء اللاهبة، تذكر أن هذا المتاع الذي أمامه هو متاع الحياة الدنيا القليل بجانب ما أعدّه الله تعالى في الآخرة لأهل طاعته.
فقال: هلكتُ وربِّ الكعبة، أصبحتُ في ظلٍّ بارد، وماءٍ بارد، وطعامٍ مهيَّأ، وامرأة حسناء، ورسول الله ص في الحَرّ والسَّموم، في عنقه السيف، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما هذا بالنَّصَف.
ثم أخذ قراره من لحظته:
لن يدخل العريش المهيّأ، ولن يتمتع بهذا النعيم الزائل، ولن يركن إلى أثقال الأرض، بل سيسعى لاستدراك ما فات، واللحاق بركب جيش الرسول ص وأصحابه.
أخبر زوجته بذلك، وطلب منها أن تجهّز له زاد رحلته؛ تمراتٍ وإداوة ماء، ثم ركب بعيره وانطلق.
نادته امرأته وهو يرتحل: يا أبا خيثمة هَلُمَّ أكلمْك، فقال لها: والذي نفسي بيده لا ألتفت إلى أهلي، ولا مالي حتى آتي رسول الله ص ليستغفر لي.
ثم خرج يحثُّ الخُطا في طلب رسول الله ص حتى أدركه بتبوك حين نزلها، وعندما دنا من معسكر المسلمين أشرف المسلمون ينظرون إليه، وقالوا: يا رسول الله! هذا راكب من قبل المدينة.
كان لهذا الراكب أن يكون أيَّ واحد ممن تخلفوا عن الجيش في المدينة، أو ممن تخلفوا عنه أثناء الطريق، فقد كان الذين يصيبهم الضعف يتخلفون أثناء الطريق، إذ ليس كل من سلك الطريق سيستمر فيها، ففيهم من سيتعب، ويجبن ويندم.
غير أن الرسول ص قال حينها (كُنْ أبا خيثمة).
تخيلوا، رسول الله ص بنفسه الشريفة يأمل من الله تعالى أن يكون هذا القادم أبا خيثمة، علامَ يدلُّ ذلك؟
ألا يدلُّ على حبّ الرسول ص لأبي خيثمة؟!
ألا يدلُّ على معرفة الرسول ص بمعادن رجاله الذين ربّاهم على يده؟!
ألا يدلُّ على أن الرسول ص كان يدرك أن الإيمان الذي في قلب أبي خيثمة لن يتركه في انجذابه للدنيا وتركه الجهاد؟!
الذين قعدوا عن السلوك في طريق العمل في سبيل الله كثيرون، وكثير منهم هم ممن نحبهم ونحب أن يعودوا لهذا الطريق، وكثير من هؤلاء هم ممن نعرف معادنهم، ونأمل أن لا تخبو جذوة الإيمان في قلوبهم، ألا يشعر كل واحد منا عندما تكون هناك سبيل طاعة برغبة عارمة في أن يكون هؤلاء الذين يحبهم من سالكيه، فتراه يدعو بينه وبين نفسه: (كن فلانًا).   
(كُنْ أبا خيثمة).
وهكذا كان، فقالوا: يا رسول الله! هو والله أبو خيثمة.
وأتى أبو خيثمة يبكي، ولا أدري أكان بكاؤه بكاء الحزن على ما فاته من أجر بتأخره عن الخروج مع الجيش أول مسيره، أم كان بكاء الفرح بأنه استدرك ما فات؟
عاتبه حبيبُه ص، وحُقَّ للمحبّ والمربي أن يعاتب من يحبّ من أتباعه على تقصيرهم لئلا يعودوا للتقصير، وهو عتاب الحريص على عدم تكرار الخطأ، لا عتاب المبكّت اللائم، فقال له: ما خَلَّفك يا أبا خيثمة؟ أولى لك.
(أولى لك)، كلمة كانت العرب تستخدمها للدعاء بالمكروه والتهديد والوعيد، كأنه يقول له: لقد دنوت من الهلكة يا أبا خيثمة.
فقال له أبو خيثمة: كدتُّ يا نبي الله أن أهلك بتخلفي عنك، وتزينت لي الدنيا، وتزين لي مالي في عيني، وكدت أن أختاره على الجهاد، فعزم الله علي بالخروج.
لم يحاول اختلاق المبررات، ولا الاعتذار، بل بكل بساطة اعترف بأن زينة الدنيا خدعته، وأنه كاد يختارها على الجهاد، فاستغفر له رسول الله ص، ودعا له بالبركة والخير.
للأسف فإن كثيرين ممن يتخلفون من أحبابنا يزين لهم الشيطان أن تخلفهم لم يكن لركونهم إلى الدنيا، بل كان بناء على قناعات فكرية يحاولون ابتكار دلائل عليها، أو لفساد وانحراف عند القيادة يعملون على تضخيمه لتبرير قعودهم، وهؤلاء –  الذين لا يعترفون بحقيقة ما دفعهم – للتراجع سيبتعدون أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، حتى يصلوا لمرحلة يقتنعون فيها بما اختلقوه من أعذار ومبررات، وعندها لن يكون طريق العودة عندهم ميسّرًا كما كان عند أبي خيثمة.
كل واحد منا قد يكون مرّ بتجربة كتجربة أبي خيثمة، شدته الدنيا وأقعدته عن العمل، إما في مسيره كله، أو في بعض محطاته، فيا أخي الحبيب، يا من لا زالت نفسك اللوامة التي بين جنبيك تعاتبك على قعودك، ولم ينجح شيطانك في إقناعك بمبررات لذلك، حاول أن تكون أبا خيثمة، فالطريق للالتحاق بركب السالكين مفتوح، والاستدراك ممكن، فـ (كن أبا خيثمة).

م. عيسى خيري الجعبري
28/3/2018

2018/03/25

الأحاديث المردودة، المدلّس (الحلقة 19)


الحديث المدلس

سبق وتحدثنا عن أربعة أنواع من الحديث الذي فقد شرط اتصال السند، وهي: المنقطع، والمعضل، والمرسل، والمعلّق.
موضوع حديثنا اليوم هو النوع الخامس من الأحاديث التي فقدت شرط اتصال السند، وهو الحديث المدلّس.

ما هو معنى التدليس في اللغة والاصطلاح؟

أصل التدليس مشتق من (الدَّلَس)، وهو الظُّلْمة، أو اختلاط الظلام بالنور، ويطلق (التدليس) في اللغة على (كتمان عيب السلعة عن المشتري)، وقد استخدم هذا المصطلح في علم الحديث لأن المُدَلِّسَ حاول كتمان عيبٍ في السند، فكأنه أظلمَ أمرَ الحديث على الواقف عليه.
أما اصطلاحًا، فـ (التدليس) هو : (إخفاء عيب في الإسناد، وتحسين لظاهره).

ما هي أنواع التدليس؟

ينقسم التدليس إلى ثلاثة أقسام، وهي: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية.
أما تدليس الإسناد، فهو:
أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وقد أضاف بعض العلماء – كابن الصلاح في مقدمته – لهذا التعريف أن يروي الراوي عن من عاصره ولم يلقه بلفظ يوهم أنه قد لقيه وسمعه منه.
واعترض عليه آخرون ممن علقوا على كتابه أو شرحوه، كـ (ابن حجر) واعتبروا أن هذه الصورة (رواية الراوي عن من عاصره ولم يلقه) ليست من التدليس، وإنما هي نوع خاص من الانقطاع أطلقوا عليه اسم (المرسل الخفيّ).
وأما تدليس الشيوخ، فهو:
أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.
أي أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
أما تدليس التسوية، فهو:
 رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.

هل من مثال على تدليس الإسناد، مع مزيد توضيح له؟

قلنا أن تدليس الإسناد، هو: أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنه سمعه منه.
وفي هذه الحالة فإن الراوي وشيخه قد التقيا، ويمكن أن يكون الراوي قد سمع من الشيخ أو لم يسمع منه، ولكن هذه الرواية الموصوفة بأنها (مدَلّسة) ليست مما سمعه الراوي من الشيخ، ولأن اللقاء قد حصل، والسماع ممكن أو حاصل، فإن عدم ذكر الواسطة بين الراوي والشيخ سيوهم أنه سمعه منه مباشرة، ولكن علماء الحديث كانوا يميزون بين الراوي الذي يستخدم التدليس، ولو بحسن نية، للاختصار مثلًا، وبين من لا يستخدمه.
ومن الأمثلة على تدليس الإسناد من راوٍ دلّس عن شيخه الذي لقيه وسمع منه:
ذكر (علي بن خشرم)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، أن ابن عيينة قال لهم: عن الزهري...، وساق حديثًا.
وكان سفيان يدلّس، ولكنه كان لا يدلس إلا عن ثقة، وكان تلاميذه يعرفون أنه يدلّس، فقالوا له: سمعتَه من الزهري؟ فقال: لا، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق عن مَعمَر عن الزهري.
فـ (ابن عيينة) سمع من الزهري، وكان من تلامذته المميزين، حتى أن عليًّا بن المديني قال: "ما في أصحاب الزهري أتقى من ابن عيينة".
ولكنه لم يسمع هذا الحديث الذي رواه لتلاميذه منه، وهو عندما قال (عن الزهري) لم يكذب، إذ لم يقل فيه (حدثنا) أو (أخبرنا) أو (سمعت)، ولكنّ تلاميذه كانوا سيقعون في الوهم ويظنون أنه سمعه من الزهري مباشرة، غير أنهم كانوا نجباء عارفين بشيخهم، ولذلك سألوه لما لم يستخدم الألفاظ التي تدل على السماع عمّن سمعه، فأجابهم أنه سمعه من عبد الرزاق عن مَعمَر.
و(عبد الرزاق) الذي ذكره ابن عيينة إمام ثقة في الحديث، وهو صاحب كتاب (المصنف)، وهو من تلاميذ سفيان بن عيينة، و(مَعمَر بن راشد) ثقة ثبت من تلاميذ الزهري.
وهذا السند (ابن عيينة عن مَعمَر عن الزهري) سند صحيح، وقد أخرج البخاري أحاديث في صحيحه من نفس الطريق.

لماذا كان بعض المحدثين يفعلون (تدليس الإسناد)؟

في البداية يجب أن نشير إلى أن بعض صور (التدليس)، وإن كانت مندرجة ضمنه، إلا أنها لم تكن بقصد التدليس، فقد يسقط الراوي الواسطة بينه وبين الشيخ الذي نقل عنه الحديث اختصارًا، أو لأنه نسي من حدّثه الحديث عن ذلك الشيخ.
ولكن هناك حالات كثيرة كان الرواة يتعمدون فيها تدليس الإسناد، وهناك أسباب عديدة كانت تدفعهم للقيام بذلك، منها:
** ضعف الشيخ الذي تم إسقاط اسمه
فقد يُسقِطُ الشيخ اسم الرواي الذي سمع منه لأنه ضعيف، وقد يكون ضعيفًا عند غيره وهو يعتبره ثقة.
** تأخر وفاة الشيخ أو صغر سنه
فبعض الرواة كان يأنف من أن يروي عن من هو أصغر منه، أو عن من لا زال حيًّا من الرواة.
** توهيم علو الإسناد
أي أن يوهم الناس أن إسناده عالٍ.
** فوات شيء من الحديث عن شيخ سمع منه الكثير.
قد يكون الحديث عن شيخ قد سمع الراوي من الكثير من أحاديثه، وفاته بعضها، فيأنف أن يذكر الواسطة التي تدلُّ على أن سماع هذا الحديث مما فاته.
 هل من مثال على تدليس الشيوخ؟

ذكرنا أن تدليس الشيوخ هو: أن يقوم الراوي بتمويه اسم الشيخ، أو كنيته، أو نسبته، أو صفته، فهو لم يُسقط الشيخ من السند، ولكنه وصفه بأوصاف لا يعرف بها.
ومن أمثلة ذلك:
أن الإمام الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) صاحب كتاب تاريخ بغداد، والعديد من كتب الحديث وعلوم الحديث يروي في كتبه عن:
** أبي القاسم الأزهري.
** وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي. 
** وعن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي
وهذه الأسماء الثلاثة جميعها لشخص واحد من مشايخه، كما قال أبو عمرو بن الصلاح.

ما الأغراض الحاملة للرواة على تدليس الشيوخ؟

هناك أسباب عديدة كانت وراء لجوء بعض الرواة لذكر اسم غير مشهور لبعض شيوخهم، ومنها:
** ضعف الشيخ، أو كونه غير ثقة.
فيكون قصد الراوي أن يصعب البحث عن صحة الحديث، إذ لو ذكر اسم الراوي المشهور بالضعف لسارع علماء الحديث لتضعيفه.
** تأخر وفاة الشيخ.
بحيث يكون عدد من الرواة المتأخرين قد شاركوا الراوي في السماع من هذا الشيخ، فلا يحب أن يقارن بهم، كون سماعه كان قديمًا قبلهم.
** صغر سن الشيخ.
بحيث يكون أصغر من الراوي عنه، فيأنف من ذكر اسمه.
** كثرة الرواية عن الشيخ.
فلا يحب الإكثار من ذكر اسم شيخه على صورة واحدة.

ما هي صورة تدليس التسوية، مع مثال عليه؟

قلنا أن تدليس التسوية هو رواية الراوي عن شيخه، ثم إسقاط راوٍ ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر.
وصورة ذلك:
أن يروي الراوي حديثا عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف، عن ثقة، ويكون الثقتان قد لقي أحدهما الآخر، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الإسناد عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيسوي الإسناد كله ثقات.
وهذا النوع من التدليس شر أنواع التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر، فيحكم له بالصحة. وفيه غرر شديد.
ومن أمثلة تدليس التسوية
روى (إسحاق بن راهويه) عن (بقية بن الوليد) قال: حدثني (أبو وهب الأسدي) عن (نافع) عن (ابن عمر) أن الرسول ص قال: "لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه".
وقد نقل ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه أن في هذا الحديث علّة قلَّ من يدركها، ذلك أن أصل الحديث هو هكذا:
(بقية بن الوليد) عن (عبيد الله بن عمرو) عن (ابن أبي فروة) عن (نافع) عن (ابن عمر)
فأسقط (بقيةُ بن الوليد) اسم (ابن أبي فروة) من السند، وجعله وكأنه من رواية (عبيد الله بن عمرو) مباشرة عن (نافع)، وهذا هو تدليس التسوية، ثم ذكر (عبيد الله بن عمرو) باسمٍ غير الاسم المشهور له، فقال: (حدثني أبو وهب الأسدي)، وهو هنا لم يكذب، فـ (عبيد الله بن عمرو) أسدي القبيلة، وكنيته أبو وهب، وهذا هو تدليس الشيوخ.
وقد غيّر (بقية) الاسم هنا حتى لا ينتبه من يأخذونه عنه إلى أنه يرويه عن (عبيد الله)، إذ الحديث من طريق عبيد الله معروفٌ أنه يرويه عن (ابن أبي فروة)

لماذا ذمّ العلماء التدليس؟

المدلس في تدليس الإسناد يوهم أنه سمع ممن لم يسمع منه، ولا يكون ذلك غالبًا إلا لعلمه بأنه لو ذكر الذي دلس عنه لم يكن مرضيا.
أما في تدليس الشيوخ فإنه يعدل عن الكشف إلى الاحتمال، فيوعّر طريق الحكم على الحديث.

ما هو حكم التدليس؟

·       (تدليس الإسناد) مكروهٌ جدًّا، وقد ذمَّه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له، فقال فيه أقوالا، منها: "التدليس أخو الكذب".
·       أما (تدليس التسوية) فهو أشد كراهة منه، حتى قال العراقي: "إنه قادح فيمن تعمد فعله".
·       وأما (تدليس الشيوخ) فكراهته أخف من تدليس الإسناد؛ لأن المدلِّس لم يسقط أحدًا، وإنما ذكر شيخه باسم له غير مشهور به، والكراهة هنا سببها تضييع المروي عنه، وتوعير طريق معرفته على السامع، وتختلف الحال في كراهته بحسب الغرض الحامل عليه.

ما حكم رواية المدلّس؟

اختلف العلماء في قبول رواية المدلس (الثقة)، والقول الصحيح المعتمد عند الجمهور أن روايته مقبولة إن صرح بالسماع، أي إن قال: "سمعت" أو نحوها، فإن لم يصرح بالسماع لم تقبل روايته، أي إن قال: "عن" ونحوها.

ما حكم الحديث المدلّس؟


الحديث المدلّس من الأحاديث الضعيفة؛ بسبب فقده شرط اتصال السند، إذ قد يكون الراوي الذي تمّ إسقاطه مردود الرواية.

2018/03/20

مقدمة كتاب (هكذا علمني أبي)


هكذا علمني أبي

مقدمة الكتاب
في مثل هذه الأيام قبل عشرين عامًا، وبالضبط بتاريخ 21/3/1997 فارق والدي (خيري بن عيسى بن محمد عيد الجعبري) الحياة، غير أن الشعلة التي كان قد أوقدها في هذه الدنيا لتنير لمن حوله الطريق لم تنطفئ.
كثيرون هم الذين يمرون في هذه الدنيا، ولكن قلةً منهم تترك أثرًا يلمسه الناس بعدهم، وقد كان أبي – رحمه الله – من هؤلاء القلة، فقد كان يسير على ما نصح به أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
هذا الأثر الذي تركه والدي ظهر جليًّا في الذين كانوا حوله، من أبنائه وأقاربه، وفي الذين تعاملوا معه وعرفوه، وإنّ من نِعَم الله تعالى التي لا نحصيها علينا ما خلّفه لنا – رحمه الله – من سمعة طيبة لا زال عطرها يفوح رغم مرور سنين عديدة على مفارقته دنيانا.
ولد أبي سنة 1945 في أواخرها، وكان مولده في مدينة القدس حيث كان والده (جدّي عيسى) يسكن ويعمل، إذ أن جدَّ والدي (الحاج محمد عيد) كان قد انتقل بعائلته من الخليل إلى القدس وأقاموا فيها، ثم بعد نكبة عام 1948 عادت العائلة إلى الخليل.


وقد تلقى والدي أول دروسه في مدرسة الحياة من أبيه وجدّه، رحمهم الله جميعًا، فجدّي (محمد عيد) كان رجلًا قد عرك الحياة، ورغم أنه نشأ يتيمًا فقيرًا إلا أنه كان حكيمًا عاقلًا، ولعلَّ سفره للقتال أيام الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين، حيث غاب نحو (3) سنوات قد ساهم في توسيع أفقه ومعرفته بالناس والحياة، وكان ذا شخصية قوية، وله مهابة يظهر أثرها في من حوله، كما كان متدينًا، ورغم هيبته والرهبة التي كانت تصيب من يراه إذا غضب، إلا أنه كان لطيفًا معنا، وقد توفي سنة 1974، وعمري أقل من (7) سنوات، ولا زلت أذكر عدة مشاهد لي معه، منها مشهد كنت أقوده فيه وأمسك بيده في شارع (السهلة) ذاهبًا إلى مكتب السيارات الذي كان لـ (جدّي عيسى)، وكان قد فقد بصره  في أواخر عمره، وأذكر كذلك مشهده وهو مريض على فراشه في غرفته، ومشهده حين تم نقله إلى المستشفى قبل وفاته، وكان ذلك في سيارة (الجيب) التي كانت لـ (جدي عيسى).
ومن الذكريات التي لا أنساها عنه أننا كنا ونحن صغار نتسابق في من يذهب بالطعام إليه في منزله، فقد كان يسكن هو وجدتي (الحاجّة رابعة) في منزل صغير لهما لا يبعد إلا قليلًا عن منزل جدّي عيسى، وكان الأهل يرسلون لهما من الطعام الذي يطبخونه، فكنا نتسابق أيُّنا يفوز بتوصيل الطعام إلى (سيدي الحج وستي الحجة)، ذلك أنه كان لا يُخلي منزله من حلوى (الحلقوم) المشهورة عندنا في الخليل، ويفوز الذي يأخذ الطعام لهم ببعض حبات هذا (الحلقوم) اللذيذ.
أما جدي (عيسى) فقد ورث الحكمة عن أبيه، وورّثها لوالدي، ورغم أنه قد مر على وفاته (منذ سنة 1989) نحو (28) عامًا، إلا أن سيرته العطرة لا زالت حاضرة بين من يعرفونه ومن سمعوا عنه، فلا أكاد ألتقي بأحد ممن هم في جيله أو جيل والدي ممن عايشوهما إلا ويترحم عليهما ويلهج لسانه بالثناء والدعاء، وقد ترك هو فيَّ أثرًا عظيمًا، إذ كنت أول أحفاده، وحاملَ اسمه، فكان يخصني بعنايته ورعايته، وكثير من الدروس التي تلقيتها من أبي كنت قد تلقيت مبادئها منه رحمه الله.
أما والدي، فرغم أنه لم يكمل تعليمه المدرسي، إذ غادر المدرسة وهو في الصف الأول الإعدادي فيما أظن، إلا أنه أحسن تلقي الدروس من مدرسة الحياة، وساعده على ذلك والده وجدّه، وذكاءٌ فطري وهبه الله تعالى إياه، ولذلك فقد كان مبدعًا في حياته، في تربيته لنا، وسلوكه مع من حوله، وإدارته لعمله.
لقد كان بالنسبة لي أبًا وأستاذًا مربيًّا ومرشدًا، وكلما تقدمت في هذه الحياة وجدت نفسي أستذكر الدروس التي كان يعلّمني إياها وأستحضرها لعلاج مشكلات كثيرة أواجهها، وخلال عملي (الدعوي) كانت تمر بي كثير من المواقف فأجد أن أفضل الحلول لها وأحسن طرق التعامل معها هي تلك التي علمني إياها أبي.
وقد كان لأبي في تعليمه دروسَه منهجٌ جذّابٌ، لم يدرسه في مدرسة أو جامعة، فقد كان يلقي دروسه لنا عن طريق حكاية ممتعة، أو مثلٍ شعبي، وكثير منها كان يعلمنا إياه بالقدوة، وهذه الأساليب هي التي ترسخ المفاهيم والأفكار في نفوس الصغار.
أما عن قصة هذا الكتاب فإني، وخلال وجودي في سجون الاحتلال، كنت ألقي كثيرًا من المحاضرات على شبابنا من أبناء الحركة الإسلامية خلال منهاجنا الثقافي، وكنت حريصًا على معالجة بعض الأخطاء في التفكير والإدارة، وعلى نقل التجارب الإيجابية للأجيال اللاحقة، وأثناء ذلك كنت أستلهم من دروس أبي – رحمه الله – الشيء الكثير، وقد فكرت في الآونة الأخيرة في جمع تلك المحاضرات في كتاب خاص بها، ولما بدأت بتجميع مادته مرت بي بعض المحاضرات التي كان لما استفدته منه رحمه الله أثر واضح فيها، فأحببت أن أُفرد أبرز الدروس الحياتية التي تلقيتها منه في هذا الكتاب تسجيلًا لهذه التجربة، ووفاءً له، ونشرًا للفائدة، ولتعميم هذه الأفكار، والتي أظن أن الكثيرين سيجدون فيها فائدة ومتعة.
لقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه (ح1631) أن الرسول ص قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)، فأحببت أن يكون هذا الكتاب من باب (العلم الذي ينتفع منه) كما أرجو، إذ هو – وإن كان من صياغتي – فإنه من تأليفه وإنشائه.
رحم الله أبي وآباءه، وجزاهم عنّا خير الجزاء.
وأرجو ممن يقرأ هذا الكتاب أن لا ينساه وإيانا من دعوة صالحة، عسى أن يشملنا الله تعالى برحمته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
م. عيسى خيري الجعبري
الخليل
7/ جمادى الآخرة/ 1438 هـ، 6/ 3/ 2017م.
  

2018/03/19

الأحاديث المردودة، المعلق (الحلقة 18)


الحديث المعلّق

سبق وتحدثنا عن ثلاثة أنواع من الحديث الذي فقد شرط اتصال السند، وهي:
المنقطع، والمعضل، والمرسل.
وحديثنا اليوم عن النوع الرابع منها، وهو الحديث المعلّق.
ما هو الحديث المعلق؟
الحديث المعلق – اصطلاحًا –: (هو ما حذف من مبدأ إسناده راوٍ فأكثر على التوالي).
وقد سمي هذا السنَدُ معلّقًا بسبب اتصاله من الجهة العليا فقط، وانقطاعه من الجهة الدنيا، فصار كالشيء المعلق بالسقف ونحوه.


ما هي صور الحديث المعلّق؟

يوصف الحديث بأنه (معلّق) إذا حُذف من تلقى منه مؤلف الكتاب الحديث، ويشمل ذلك أن يكون المحذوف أكثر من واحد، وعليه فإن الصور التالية تدخل في تعريف الحديث المعلّق:
أن يحذف جميع الإسناد، ثم يقال مثلًا: "قال رسول الله : كذا".
أن يحذف كل الإسناد إلا الصحابي، أو إلا الصحابي والتابعي، فيقول مخرج الحديث – مثلًا –: عن أبي هريرة أن الرسول  قال ....
أن يحذف شيخ الراوي فقط، فيذكر الراوي الحديث عن شيخ شيخه.
أن يحذف عدد من رواة أول السند متتالين.
وعليه فإنّ أي حديث يرويه أي أحد من الناس في عصرنا، بأن يقول قال ، ولا ينسبه إلى كتاب معتبر يعتبر حديثًا معلّقًا.

ما هو حكم الحديث المعلّق؟

الحديث المعلق في الأصل ضعيف، لأن السقط في السند يمنع من إمكانية الحكم على رجاله، أي (للجهل بحال المحذوف).

هل من مثال على الحديث المعلق؟

من أمثلة الحديث المعلّق قول الإمام البخاري:
ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي : (الفخذ عورة).
فالبخاري هنا حذف الرواة الموجودين في أول السند، وهم الذين وصله الحديث عن طريقهم، ولم يُبق من السند إلا آخره.

ما هي معلقات البخاري، وما حكمها؟

احتوى صحيح البخاري على كثير من الروايات المعلقة، وتأتي غالبًا في تراجم الأبواب (عناوين المواضيع).
وكان البخاري يذكر الحديث معلّقًا لأسباب عدة، منها:
(1) أن يكون الحديث ليس على شرطه في الصحيح.
(2) أن يكون قد رواه في موضع آخر بسنده المتصل، فلا يرغب بتكراره.
(3) الرغبة في الاختصار، ومن ذلك أن يكون قد روى في الباب ما يغني عن الإطالة بتخريج خبر تام إسنادًا ومتنًا زيادة على ما خرج.
أما عن حكم معلقات البخاري ففيه تفصيل:
(1) إذا كان البخاري قد ذكر بقية السند بصيغة الجزم، فقال: "قال فلان"، أو "ذَكَر فلان"، أو "حكى فلان"، فإنه بذلك يشير إلى أن الطريق الذي وصله الحديث إلى من ذكره من الرواة صحيح، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه، ويحتاج البحث في بقية السند.
ومثال ذلك:
قال البخاري في باب قول النبي  (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا):
وقال صلة، عن عمار: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ).
فالبخاري – هنا – علّق الحديث، فلم يذكر كيف وصله عن (صِلَةَ بْنِ زُفَرَ) الذي يرويه عن (عمار بن ياسر) رضي الله عنه، ولكنّ تعليقه إياه بصيغة (قال) التي تفيد الجزم مشعِرٌ أن الحديث وصل للبخاري من طريق صحيح.
والحديث صحيح، رواه: ابن ماجه، ح1645، وأبو داود، ح2334، والترمذي، ح686، والنسائي، ح2188، وغيرهم، وقد رواه هؤلاء من طريق (أبي خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن صلة، قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتي بشاة، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم، فقد عصى أبا القاسم )
(2) إذا ذكر البخاري الرواية المعلّقة بصيغة التمريض: كـ "قيل"، و"ذُكِرَ"، و"حُكِيَ"؛ فليس فيه حكم منه بصحته عن المضاف إليه. بل فيه الصحيح والحسن والضعيف، ولذا فيحتاج البحث في سنده للحكم عليه.
ومثال ذلك:
ما رواه البخاري في صحيحه في باب (ما جاء في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله) إذ قال: "وقيل لِوَهْبِ بنِ مُنَبِّه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: (بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك).
وهذا الأثر عن وهب بن منبّه رواه البخاري نفسه في كتابه التاريخ الكبير، فقال: (قال لي إسحاق: أخبرني عبد الملك بن محمد الذماري، سمع محمد بن سعيد بن رمانة، سمع أباه، عن وهب بن منبه، قال: لا إله إلا الله مفتاح الجنة، وليس من مفتاح إلا وله أسنان).
كتاب تغليق التعليق
ألف الإمام (ابن حجر العسقلاني) المتوفى سنة (852 هـ) كتابًا سماه (تغليق التعليق على صحيح البخاري)، وقد قام فيه بتخريج الروايات المعلقة الواردة في الصحيح،  وبيان من رواها مسندة.
 وقد حقق د. سعيد القزقي هذا الكتاب في رسالته للدكتوراة، وهو مطبوع في (5) مجلدات.
ملاحظة:ليس في صحيح مسلم حديث معلق سوى في موضع واحد.

ما حكم معلقات غير البخاري؟

ذكر بعض العلماء أن القاعدة فيما يوجد من المعلقات عند غير البخاري أنه حديث ضعيف حتى يعلم وصله من وجه ثابت، وذلك للجهل بدرجة الساقط من الإسناد.
ولكن آخرين من العلماء عمموا الحكم الذي سبق ذكره في معلقات البخاري على كل كتاب التزم مؤلفه بصحة ما فيه، فيحكم لها بالصحة إن ذكرها المعلق بصيغة الجزم.
إن قال المعلّق: جميع من أحذفه ثقات، جاءت مسألة التعديل على الإبهام، والجمهور: على أن هذا التعديل لا يقبل حتى يسمى الراوي؛ لأنه قد يكون ثقة عنده ضعيفًا عند غيره.

ما حكم بلاغات (موطأ مالك)؟

البلاغات هي قول المؤلف (وبلغني عن فلان أنه قال.... أو فعل ...)، وهي كثيرة في موطأ الإمام مالك بن أنس.
و(بلاغات) مالك في (الموطأ) هي من قبيل المعلقات، فلا يُجزم بثبوتها، بل الأصل فيها الضعف لانقطاع الإسناد، حتى توصل بإسناد ثابت.
وقد وجد كثير من (بلاغات) مالك موصولًا بإسناد ضعيف، أو ضعيف جدًّا، وإن كان كثير منها ثابتًا.

ما علاقة المعلق ببقية أنواع الحديث المنقطع؟

ذكرنا أن (المعلّق) هو ما أسقط المؤلف منه راويًا أو أكثر في أول السند.
وعليه:
فإن كان الساقط راويًا واحدًا، فالحديث معلّ، وهو منقطع كذلك.
وإن كان الساقط راويان فأكثر فالحديث معلّق، ومعضل كذلك.
أما إن كان السَقَط في منتصف السند أو في آخره، فليس من نوع المعلّق.

الأحاديث المردودة، المرسل (الحلقة 17)


الحديث المرسل
موضوعنا اليوم هو عن الحديث المرسل.

ما هو الحديث المرسل عند علماء المصطلح؟

لغةً: هو اسم مفعول من "أرسل" بمعنى "أطلق"، فكأنّ المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف.
اصطلاحًا: هو ما سقط من آخر إسناده مَنْ بعد التابعي.
أو هو أن يقول التابعي قال رسول الله ص.
ومثاله: روي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ص نهى عن بيع المزابنة.
فـ (سعيد) تابعي، وقد روى النهي عن المزابنة عن الرسول ص وأطلق الإسناد فلم يذكر ممن سمع ذلك.

هل استخدم وصف (المرسل) في معانٍ أخرى للحديث؟

كما أسلفنا سابقًا فإن المصطلحات – في علم الحديث – كما في غيره من العلوم لم تستقر إلا متأخرة، وحتى بعد استقرارها فإن بعض المصطلحات بقيت مستخدمة في علوم أخرى بمعانٍ مختلفة عن المشهور المصطلح عليه.
والمرسل بالمعنى الذي ذكرناه سابقًا، أي رواية التابعي عن الرسول ص مباشرة دون ذكر الواسطة بينهما هو المصطلح المستقر للمرسل عند المتأخرين من علماء مصطلح الحديث.
أما غيرهم، فيمكن تلخيص الملاحظات التالية عن استخدامهم لمصطلح (المرسل):
** الفقهاء والأصوليون في كتبهم أطلقوا اسم (المرسل) على كل منقطع على أي وجه كان انقطاعه، أخذًا من المعنى اللغوي للإرسال.
** حتى أن بعضهم أطلق اسم (المرسل) على ما كان فيه مجهول مبهم في الإسناد، كقولهم فيه: "فلان، عن رجل أو عن شيخ عن فلان " أو نحو ذلك.
** بعض المحدثين جعلوا اسم (المرسل) خاصًّا بما رواه كبار التابعين عن الرسول ص، وهم التابعون الذين التقوا بجماعة من الصحابة وجالسوهم وأخذوا عنهم، كـ (سعيد بن المسيب) و(عبيد الله بن عدي بن الخيار) و(الحسن البصري).
أما صغار التابعين، كـ (الزهري)، و(أبو حازم)، و(يحيى بن سعيد الأنصاري)، وأشباههم، ممن كانت أكثر روايتهم عن التابعين ولم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين، فقد رفض بعض العلماء تسميته مرسلًا، بل أطلقوا عليه وصف (المنقطع).
والمشهور – كما أسلفنا – التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك.
** إذا انقطع الإسناد قبل الوصول إلى التابعي، فكان فيه رواية راو لم يسمع من المذكور فوقه، أي أن يقول تابع التابعي أو من هو دونه: قال ص، فقد سمّاه بعضهم (مرسلًا)، ومشاهير علماء الحديث يقطعون بأن ذلك لا يسمى مرسلا، وأن الإرسال مخصوص بالتابعين.

ما هو حكم الحديث المرسل؟

الحديث المرسل – في الأصل – حديث ضعيف مردود؛ لفقده شرطا من شروط المقبول، وهو اتصال السند، وللجهل بحال الراوي المحذوف؛ لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وفي هذه الحال يحتمل أن يكون الراوي الساقط من السند ضعيفًا، وهذا هو مذهب جمهور المحدثين، وكثير من الفقهاء والأصوليين.
غير أنّ كثيرًا من الفقهاء، ومنهم أبو حنيفة ومالك، كانوا لا يقولون بتضعيفه، بل يصححونه ويأخذون به.
وهذا الذي ذكرناه عن حكم الحديث المرسل مختصر يناسب موضوعنا، وإلا ففي المسألة أبحاث كثيرة، وتفاصيل واسعة، وخلاف طويل، وجلُّ ذلك في كتب أصول الفقه، وليس في كتب المصطلح.

هل يشمل التضعيف مرسل الصحابي؟

مرسَل الصحابي: هو ما أخبر به الصحابي عن قول الرسول ص أو فعله، ولم يسمعه أو يشاهده؛ إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه، أو غيابه، ومن هذا النوع أحاديث لصغار الصحابة؛ كابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما.
حكم مرسَل الصحابي: أنه صحيح محتجٌّ به، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأن رواية الصحابة عن التابعين نادرة، وإذا رووا عنهم بينوها، فإذا لم يبينوا، وقالوا: قال رسول الله، فالأصل أنهم سمعوها من صحابي آخر، وحذف الصحابي لا يضر.
وقد ذهب بعض أهل العلم لاعتبار مرسل الصحابي كمرسل غيره، إلَّا أن يصرح بأنه لا يروي إلَّا ما سمعه من رسول الله ص أو من صحابيّ عنه؛ لأَنَّه قد يروي عن غير صحابيّ، وهو مذهب مردود، لأنّ رواية الصحابي عن غير الصحابة نادرة، والنادر لا حكم له.

لماذا احتج عدد من الفقهاء بـ (المرسل)؟

اعتبر الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية عنه) المرسل مقبولًا للاحتجاج به (عندما لا يعارضه متصل أصح منه)، بشرط أن يكون المرسِل ثقة، ولا يرسل إلا عن ثقة. وحجتهم أن التابعي الثقة لا يستحل أن يقول: قال رسول الله ص إلا إذا سمعه من ثقة.
وقد أيدوا ما ذهبوا إليه بما نقل عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا رويت عن عبد الله – يعني ابن مسعود – وأسندت، فقد حدثني واحد، وإذا أرسلتُ فقد حدّثني جماعة عنه.

ما هو مذهب الشافعي في الحديث المرسل؟

كان الشافعي يقبل مراسيل كبار التَّابعين إذا أنضمَّ إليها ما يؤكدها، ولا يقبلها إذا لم ينضمّ إليها ما يؤكدها، وسواء أكانت المراسيل من رواية سعيد بن المسيب أو غيره من كبار التابعين.
وقد أجاز الشافعي الاحتجاج بالمرسل بشروط أربعة؛ وهي:
(1) أن يكون المرسِل من كبار التابعين.
(2) أن يكون إذا سمى من أرسل عنه سمى ثقة، أي إذا سئل عن اسم الراوي الذي حذفه، فإنه يذكر اسم شخص ثقة.
(3) أن يكون الراوي المرسِل ضابطًا تام الضبط، بحيث إذا شاركه الرواة الضابطون يوافقون على روايته.
(4) أن يعتضد المرسَلُ بشيء يقويه، ومن ذلك: حديث آخر مسند (وفائدته التقوية عند الحاجة للترجيح)، مرسل آخر عن غير شيوخ المرسِلِ الأول، موافقة فتوى صحابي، أو فتوى كثير من أهل العلم.
وقد يتساءل البعض فيقول: إذا كان في المسألة حديث مسند متصل، فالعمل يكون بالمسند المتصل، ولا فائدة للمرسل حينها، وقد ردّ العلماء على هذا التساؤل فقالوا أن وجود المتصل المسند يُبيّن صحة المرسل، فيكون في الحكم حديثان صحيحان، أحدهما المسند المتصل، والآخر المرسل، ويستفاد من ذلك في الترجيح، بحيث إذا عارضهما حديث ورد من طريق واحدة قدمناهما عليه وعملنا بهما دونه.

ماذا لو روي الحديث مرسلًا ومتصلًا؟

إذا روى ثقةٌ حديثًا مُرسلًا، ورواه ثقة غيره مُتَّصلًا، فقد اختلف العلماء في أي الروايتين تعتمد.
والمقصود باعتماد الرواية أي أن نعتبرها هي التي نحكم على الحديث من خلالها.
فذهب بعضهم لتقديم الرواية المرسلة، إذ هناك احتمال كبير أن يكون وصل الحديث وَهْمٌ ممن وصله.
وذهب آخرون إلى أن الحكم للأكثر، فإن كان الأكثر قد رووه متصلًا اعتبرنا الرواية متصلة، وإن كان الأكثر قد رووه مرسلًا رددنا الرواية المتصلة، واعتمدنا أن الحديث مرسل.
وذهب آخرون إلى أن الحكم للأحفظ.
والذي أراه أنه لا يمكن الحكم بشكل قاعدة إجمالية على هذه المسألة، إذ فيها أن لدينا تعارضًا ظاهريًّا بين الروايات، فإما أن يكون الرواية في الأصل مرسلة والوصل وهم، أو أن الرواية موصولة، والذي أرسلها اختصرها، والترجيح بين هذين الاحتمالين يحتاج دراسة كل حديث بانفراده، إذ عوامل الترجيح تتعدد، ولا تقتصر على الكثرة والشهرة بالحفظ، وهذه المسألة مثل مسألة زيادة الثقة، ليست مقبولة مطلقًا ولا مردودة مطلقًا، في الأرجح والله أعلم.
ومن فروع هذه المسألة ما لو كان الراوي نفسه هو من وصل الحديث تارة وأرسله تارة أخرى، والذي أراه فيها أن كل حالة يحكم عليها لوحدها، والله أعلم.

الأحاديث المردودة، المعضل (الحلقة 16)


الحديث المعضل
حديثنا اليوم عن النوع الثاني من الحديث الضعيف بسبب فقد شرط الاتصال، وهو الحديث المُعضَل.

ما هو الحديث المعضل؟

وصف الحديث بالإعضال مشتق في اللغة من قولك: (أعضل الأمر) إذا اشتد واستغلق.
وأما في الاصطلاح، فقد أريد به صورة من صور السقط في الإسناد، وهي ما سقط من إسناده راويان فأكثر على سبيل التوالي.
ومناسبة هذا الاصطلاح للمعنى اللغوي للإعضال، هو أن الراوي له بإسقاط رجلين منه فأكثر، يكون قد ضيّق المجال على من يؤديه إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدد عليه الحال.
ومن صور المعضَل الواضحة أن يروي تابع التابعي عن النبي ، دون بيان الواسطة بينه وبينه، لأنه يكون قد سقط من سنده اثنان على الأقل، وهما: التابعي والصحابي.
كما ذكروا أن من صور المعضَل أن يقول التابعي كلامًا دون أن ينسبه للرسول ، ويكون هذا الكلام من قوله ، لأن التابعي بذلك يكون قد أسقط من السند الصحابي والرسول ، وقد مثلوا له بما رواه الأعمش عن الشعبي أنه قال: "يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا؟ فيقول: ما عملته. فيختم على فيه، فينطق جوارحه، أو قال: ينطق لسانه فيقول لجوارحه: أبعدكن الله ما خاصمت إلا فيكنّ".
فهذا الحديث قد أعضله الأعمش، وهو مروي الشعبي متصلًا مسندًا، كما في صحيح مسلم (ح 2969)

ما هي علاقة المنقطع بالمعضَل؟

سبق وذكرنا أن مصطلح (المنقطع) يشير في المعنى العام له إلى (ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه)، وعليه فـ (المعضَل) لقبٌ لنوعٍ خاصٍّ من المنقطع، فكلُّ مُعضَلٍ مُنقَطعٌ، وليس كلُّ مُنقطعٍ مُعضلًا.
والمنقطع في المعنى الخاص له يطلق على (ما سقط من أثناء السند فيه راوٍ واحد، أو اثنين أو أكثر بشرط عدم التوالي)، وعليه فلو سقط راو من مكان في سند الحديث ثم سقط راوٍ آخر من موضع آخر، فهو منقطع في موضعين وليس معضَلا في الاصطلاح.

كيف تتم معرفة الإعضال في الحديث؟

يمكن اكتشاف الإعضال في السند (أي أن الساقط فيه راويان أو أكثر) بإحدى الطريقين التاليتين:
(1) التاريخ، وذلك ببعد طبقة الراوي عن طبقة شيخه، بحيث إنه لو روى حديثًا من طريق ذلك الشيخ كان بينهما راويان على أقل تقدير.
ومثال ذلك:
ما رواه الدارمي في (سنن الدارمي، ح159) قال: أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: قال رسول الله : (أجرؤكم على الفُتْيا، أجرؤكم على النار).
فهذا حديث معضَل؛ لأن (عبيد الله بن أبي جعفر) هذا من أتباع التابعين، أي أن أقل ما بينه وبين الرسول   في السند اثنان؛ التابعي والصحابي، وهو قد أسقط الواسطة بينه وبين رسول الله ، فسقط بذلك الحديث.
(2) دلالة السبر لطرق الحديث، بأن يكون الحديث قد ورد من طرق يتبين منها أن فيه انقطاعًا فُقِدَ من خلاله راويان متتابعان.
ومثال ذلك:
ما رواه مالك في الموطّأ أنه بلغه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله : (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف. ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)
فالحديث منقطع بين مالك وأبي هريرة؛ لأن مالكًا لم يسمع من أبي هريرة، ولكن مالكًا من تابعي التابعين، ولديه أسانيد بينه وبين أبي هريرة فيها راو واحد، كما فيما يرويه عن (نُعَيمِ بن عبد اللَّه المُجْمِر) عن أبي هريرة، فالحديث قد يكون منقطعًا وليس معضَلًا، ولكنَّ سبر طرق الأحاديث (أي فحصها وجمعها) كشف لنا أن بين مالك وأبي هريرة في هذا السند راويان، فقد روي الحديث عن مالك في خارج الموطأ موصولًا، فقد رواه البزار في مسنده (البحر الزخار، ح8384)، وأبو عوانة في مستخرجه (ح6074، ح6075)، والطبراني في المعجم الأوسط (ح1685)، كلهم من طريق (مالك بن أنس) عن (محمد بن عجلان) عن (أبيه؛ عجلان مولى فاطمة) عن (أبي هريرة).
فعلمنا من ذلك أن بين مالك وأبي هريرة في السند راويان، وأن الحديث – كما هو في موطأ مالك – معضَل.

هل استخدم الوصف بـ (الإعضال) في غير المعنى الاصطلاحي؟

لم يكن إطلاق هذا الوصف (الحديث المعضل) بهذا المعنى شائعًا عند المتقدمين، وإنما كان هذا عندهم مندرجًا تحت المنقطع أو المرسل بعموم معناهما.
وقد استعمل المتقدمون لفظ (المعضل) وصفًا للمنكر والموضوع من الحديث.
كما أن جماعة من أئمة الحديث استخدموا لفظ (المعضل) فيما لم يسقط منه شيء البتّة، بل لوجود إشكال في معناه.
وقد مثّل ابن حجر لذلك بأمثلة عدة، منها ما قاله الذهلي عن حديث يرويه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله  يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف.
إذ قال الذهلي: هذا حديث معضل لا وجه له، إنما هو فعل عائشة – رضي الله عنها – ليس للنبي  فيه ذكر، والوهم فيما نرى من ابن لهيعة.
فالحديث سنده متصل، والإعضال الموصوف به الحديث هو استغلاق المعنى.

ما هو حكم الحديث المعضل؟

المعضل حديث ضعيف، وسبب ضعفه الانقطاع، وهو أسوأ حالا من المرسل والمنقطع (في موضع واحد)، وذلك لكثرة المحذوفين من الإسناد، وهذا الحكم على المعضل بإجماع العلماء.
ولكن ينبغي التنبه إلى مسألة سبق وأشرنا إليها، وهي أن الحكم على الحديث قد يكون حكمًا على سند معيّن ورد به الحديث، ويكون فيه سقط يستوجب تضعيف الحديث بذلك السند، ويمكن أن يكون الحديث قد ورد من طرق أخرى بسند صحيح.
فبالنسبة للحديث المعضَل ربما أعضل الراو الحديث في وقت ثمَّ وَصله أَو أرْسلهُ في وقت آخر، ومثاله حديث مالك عن أبي هريرة أعلاه، ولذلك قال الحاكم: "فينبغي للعالم بهذه الصنعة أن يميز بين المعضَل الذي لا يوصَل، وبين ما أعضله الراوي في وقت ثم وصله في وقت".

الأحاديث المردودة، المنقطع (الحلقة 15)


الحديث المنقطع
سنتحدث اليوم – بمشيئة الله تعالى – عن النوع الأول من الأحاديث الضعيفة بسبب فقد شرط الاتصال، وهو الحديث المنقطع.

ما هو الحديث المنقطع؟

الأصل أن وصف (المنقطع) يطلق على كل حديث كان سنده غير متصل، أي أن فيه راويًا لم يسمع من الذي فوقه، والساقط بينهما غير مذكور.
وعلى هذا فهو ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وعليه فهو يشمل المرسل والمعلق والمعضل والمدلس.
وقد كان العلماء المتقدمون يستخدمون مصطلح (المنقطع) بهذا المعنى العام للانقطاع.
وبناء على هذا يمكن تعريف الحديث المنقطع بأنه: (ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه).
وسواء في ذلك كان الانقطاع من أول الإسناد، أو من آخره، أو من وسطه، وكان الساقط من السند واحد أو أكثر، متوالين أو متفرقين.
غير أن ابن حجر العسقلاني ومن تلاه من متأخري علماء المصطلح جعلوا اسم المنقطع خاصًّا بما سقط من الإسناد فيه واحد، أو اثنان أو أكثر بشرط عدم تواليهم، وبناءً على اصطلاحهم هذا فإن المرسل والمعلّق والمعضل لا يطلق عليه اسم (المنقطع) الاصطلاحي.
وبناء على اصطلاحهم هذا يمكن تعريف الحديث المنقطع عندهم بأنه: (ما سقط من أثناء السند فيه راوٍ واحد، أو اثنين أو أكثر بشرط عدم التوالي).
وقد خرج بقولهم في هذا التعريف (ما سقط من أثناء السند) نوعان من المنقطع العام، وهما المعلق والمرسل؛ لأن السقط يهما ليس في أثناء السند، فالسقط في المعلق في أول السند، وفي المرسل في آخره.
وخرج بقولهم (بشرط عدم التوالي) الحديث المعضل؛ لأن الإعضال يتضمن سقوط راويين متتاليين من السند.
والانقطاع قد يكون في مكان واحد من الإسناد، وقد يكون في أكثر من مكان واحد، كأن يكون الانقطاع في مكانين أو ثلاثة مثلا.

هل يدخل الحديث الذي فيه راو مبهم ضمن المنقطع؟

تحتوي بعض الأسانيد على ذكر راوٍ مبهم، غير مسمًّى، مثل:
** قال وكيع، حدثنا سفيان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن رجل، عن علي، قال: قال رسول الله  .....
** قال عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عمرو بن وابصة الأسدي، عن أبيه، قال:...
** بهز، حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، عن مولى لقريش، عن أبي هريرة، عن النبي ....
** قال وكيع، حدثنا قدامة بن موسى، عن شيخ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله  ....
ففي السند الأول الراوي عن علي رضي الله عنه (رجلٌ)، وكذلك في السند الثاني الراوي عن عمرو بن وابصة، وفي السند الثالث الراوي عن أبي هريرة (مولى لقريش)، وفي السند الرابع الراوي عن ابن عمر (شيخ).
وكل هذه الألفاظ تشير إلى راوٍ مبهم غير معروف؛ لأنه غير مسمًى.
ووجود هذا الإبهام في السند يدخله في وصف (المنقطع)، فكون الراوي الساقط من السند محذوفًا أو مبهمًا سواء؛ لأن العلة التي ضُعّف لأجلها المنقطع، وهي احتمال أن يكون الشخص (غير المذكور في السند) راويًا ضعيفًا لا يحقق شروط الصحة من العدالة والضبط، هي نفسها في حال كونه (مذكورًا بشكل مبهم).

 هل من أمثلة تبين الانقطاع؟

أمثلة الانقطاع كثيرة
** في الموطأ: عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فقال ...
هذا السند منقطع؛ لأن مالكًا لم يدرك ابن عمر، وهو يروي عنه بواسطة، وهي في كثير من أحاديثه نافع مولى ابن عمر، ولكنه هنا لم يذكر من الذي حدثه عن ابن عمر، فالسند فيه راو محذوف.
** في الأم للشافعي: قال الشافعي: بلغنا أن الزهري قال (ما ركب رسول الله ﷺ في عيد، ولا جنازة قط)
وهو سند منقطع؛ لأن الشافعي يروي عن الزهري بواسطة، فهو يروي عن ابن عيينة عن الزهري، وعن مالك عن الزهري، وغير ذلك، وهو هنا في هذا السند لم يذكر الواسطة بينه وبين الزهري، فالسند فيه راوٍ محذوف.
** وفي الأم للشافعي أيضًا: قال الربيع: أخبرنا الشافعي قال أخبرنا بعض أصحابنا عن ليث بن سعد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله ....
وهو سند منقطع، فالشافعي يرويه عن الليث بواسطة (بعض أصحابه)، وهو وصف مبهم، لا يفيد في معرفة الواسطة التي يروي الشافعي الحديث من خلالها.
** روى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع عن حذيفة قال: قال رسول الله : (إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين...)
وهذا الإسناد، وإن كانت صورته الظاهرة صورة المتصل، إلا أنه منقطع في موضعين، إذ سنده الفعلي – كما بينته روايات أخرى – هو:
عبد الرزاق، عن (النعمان بن أبي شيبة) عن سفيان الثوري، (عن شريك)، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع عن حذيفة...
فسقط راويان في موضعين مختلفين من السند الأول.
** في موطأ مالك: قَالَ: يَحْيَى بَنُ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ: حَدَّثَنِي مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ، قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  لَيُخَفِّفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا)
وهو سند منقطع؛ لأن يحيى ابن سعيد لم يدرك عائشة، ولم يسمع منها، فهو يروي عنها بواسطة، وواسطته في كثير من الأحاديث هي عمرة بنت عبد الرحمن، أو القاسم بن محمد، وهو هنا روى عن عائشة ولم يذكر ممن سمع حديثها.
ملاحظة مهمة جدًّا
سبق ونبّهنا أن الحكم على سند ما بأنه ضعيف لا يقتضي بالضرورة أن يكون متن الحديث نفسه ضعيفًا، لأنه قد يكون واردًا من طرق أخرى بسند صحيح أو حسن.
ومثال ذلك في الأحاديث المذكورة أعلاه حديث عائشة في تخفيف ركعتي (سنّة) صلاة الفجر، فالسند الذي رواه به مالك (منقطع) كما أسلفنا؛ لأن يحيى بن سعيد لم يلق عائشة ولم يسمع منها، ومع ذلك فالحديث صحيح، إذ رواه مسلم في صحيحه (ح724) وغيره، من نفس طريق يحيى عن عائشة، ولكن ببيان ممن سمع يحيى الحديث، فقال الإمام مسلم:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَةَ تُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ  يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟ "
فبيّنت رواية مسلم أن يحيى سمع الحديث من (محمد بن عبد الرحمن) الذي سمعه من (عمرة) التي سمعته من عائشة.

هل المقطوع هو نفس المنقطع؟

الحديث المقطوع في الاصطلاح غير المنقطع.
فالحديث المقطوع: هو ما أضيف إلى التابعي (أو من دونه) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ويمكن أن يقال عن المقطوع: موقوفٌ على فلان.
مثاله: قول مسروق بن الأجدع: كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعلمه.
فهذا من قول التابعي (مسروق بن الأجدع)، ويسمى حديثًا مقطوعًا.
والمقطوع قسيم المرفوع والموقوف، إذ هذه المصطلحات الثلاثة تبين أين ينتهي سند الحديث (يعني من هو قائل الكلام المروي فيه)، ففي المرفوع القائل هو النبي ، وفي الموقوف القائل هو الصحابي، وفي المقطوع القائل هو التابعي أو من هو دونه.

ما هو حكم الحديث المنقطع؟

الحديث المنقطع ضعيف؛ لفقده شرطًا من شروط القبول، وهو اتصال السند، وسبب ضعف المنقطع أن كون الراوي (المفقود من السند) مجهولًا غير مذكور أو معروف، يجعل هناك احتمالًا أن يكون راويًا ضعيفًا لا يحقق شروط الصحة من العدالة والضبط.

كيف يُعرف الحديث المنقطع؟

الانقطاع يشير إلى وجود (سقط) في السند، وهذا (السقط) قد يكون واضحًا بحيث تسهل معرفته على أهل العلم، ككون الراوي لم يدرك عصر من روى عنه، أو أدركه ولم يلقه فلم يجتمعا، وليست له منه إجازة، ولا وجادة.
ولأجل ذلك اعتنى علماء الرجال بعلم التاريخ (الخاص بعلم الحديث، وليس التاريخ بمعناه العام)، والذي يتضمن تحرير مواليد الرواة ووفياتهم، وأوقات طلبهم وارتحالهم، وكانوا يسألون من يروون عنه عن موعد ولادته عندما يروي عن أحد الشيوخ الذين تقدم موتهم، لمقارنة موعد ولادة الراوي بموعد وفاة الشيخ الذي يروي عنه، وقد افتضح محدثون كثيرون ادّعوا الرواية عن شيوخ ظهر بالتاريخ كذب دعواهم.
وهناك نوع آخر من الانقطاع، وهو الانقطاع الخفي، وهذا لا يدركه إلا أهل المعرفة التَّامَّة بالحديث، ويكون عندما يكون الراوي قد عاصر الشيخ الذي يروي عنه، ولقيه، بل وقد يكون قد سمع منه أحاديث، غير أن الحديث الذي فيه انقطاع ليس مما سمعه منه، وهذا يُعرف بمجيء الحديث من وجه آخر بزيادة رجل أو أكثر، مع قرائن أخرى يعرفها الجهابذة المختصون بهذا العلم.

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...