2010/07/15

المجتمع المثالي ليس ملائكيًا

البعض يظن أن المجتمع المثالي الذي نسعى إليه يجب أن يكون خاليًا من الأخطاء، فكأن كل من فيه ملائكة معصومون، ولعل هذه الفكرة الخاطئة نتجت عن أسلوب التربية الفكرية والثقافية التي لجأ إليها مربونا، ليس في هذا العصر فقط، بل منذ قديم الزمان، وذلك في الصورة التي نقلوها لنا عن مجتمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
لقد دأب كثير من العلماء والمربين عندما ينقلون صورة المجتمع الذي عاش فيه الرسول الكريم  وصحابته الأطهار  على نقل الجانب المشرق من ذلك المجتمع مع إهمال كلي للسلبيات التي كانت موجودة لدى بعض أفراده، وحتى هذه السلبيات عندما كانت تُذكَر كان يصحبها تبرير يخرجها من الإطار السلبي كليًا، وفي كثير من الأحيان يكون التبرير متكلَّفًا بشكل ظاهر لأولي الألباب، نعم لقد كان مجتمع الصحابة مجتمعًا مثاليًا بكل ما في الكلمة من معنى، وكان مجتمعًا ارتقى فيه الناس إلى مستويات لن يصلوا إلى مثلها مطلقًا – كمجتمع -، وقد جعله الله كذلك وأعانهم بتوفيقه على الوصول إلى هذه المراقي العليا ليوجِد لنا على الأرض نموذجًا نسعى للسير على نهجه، ومجتمعًا نعمل على الاقتداء به.
ولكن هذه "المثالية" في ذلك المجتمع لم يكن من عناصرها أنه مجتمعٌ خالٍ من الأخطاء أو المخطئين، لقد كانت ميزة ذلك المجتمع المبارك أن نسبة الأخطاء أو المخطئين فيه كانت قليلة، ولكنها – مع ذلك - كانت موجودة، وإلا لما كان مجتمعًا بشريًا، فالبشر من طبيعتهم أنهم يخطئون.
وكان مما يميز ذلك المجتمع كذلك أن كثيرًا من المخطئين الذين كانوا فيه كانوا مثاليين في تعاطيهم مع الخطأ الذي يقعون فيه، فكانوا سريعي الأوبة إلى الصواب.
ومع ذلك كان في ذلك المجتمع مخطئون مصرون على أخطائهم، كما في كل مجتمع، وإن كانوا - كما أسلفت - قلة قليلة.
انظر معي إلى قصص مشهورة للعصاة في ذلك المجتمع، وأنا عندما أتحدث عن هؤلاء لا أتحدث عن فئة المنافقين التي كانت موجودة تبطن الكفر وتظهر الإيمان، ولكني أتحدث عن مسلمين مؤمنين، كان منهم ماعز والغامدية، وكلاهما وقع في خطيئة الزنا وهو محصن، وهي فاحشة كبيرة، ولكن مثاليتهما كانت متمثلة في التوبة وإصرارهما على التطهر من الخطيئة في الدنيا خوفًا من عقاب الآخرة.
ولكن في المقابل كان في ذلك المجتمع تلك المرأة التي لاعنها زوجها في الزنا، وكانت قد زنت، ولما جاء دورها لتشهد أنه من الكاذبين وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وخوَّفها الصحابة من أن تؤدي هذه الشهادة إن كانت قد زنت فتنال غضب الله، ترددت، ثم كان خوف "الفضيحة" عندها أكبر من خوفها من غضب الله، وسمعوها تقول: "لا أفضح قومي اليوم"، وحلفت على براءتها وهي كاذبة، وهذه تختلف عن ماعز والغامدية في أنها لم تبادر للتطهر من الذنب.
وكان في ذلك المجتمع تلك المرأة المخزومية التي سرقت وقطع رسول الله  يدها، وقد جاء في بعض الروايات أنها - بعد ذلك - تابت وحسنت توبتها.
وكان في ذلك المجتمع أولئك الذين خاضوا في عرض السيدة عائشة رضي الله عنها، وأقيم عليهم حدُّ القذف، وهؤلاء الذين جُلِدوا الحدَّ كانوا - ثلاثتَهم - من المؤمنين وليس فيهم منافق، فقد كانوا: حسان بن ثابت شاعر رسول الله  والذي كان يقول له: "اهجهم وروح القدس معك"، وكان منهم مسطح بن أثاثة، وهو من أهل بدر، وما أدراك ما أهل بدر، قال الله لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وكان منهم حمنة بنت جحش، أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، وابنة عمه المصطفى  ، ومع ذلك فقد وقعوا ثلاثتهم في خطيئته القذف.
وكان في ذلك المجتمع الذين هربوا من المعركة في "أحد": فقال الله عنهم:  إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا  ثم منّ الله عليهم بالعفو بعدها.
وكان منهم من وصفهم الله بأنهم  خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
وكان منهم الصحابي البدري الذي كان كثيرًا ما يؤتى به سكرانًا فيجلده الرسول  الحدّ، ثم لما لعنه أحدهم قال له الحبيب المصطفى  "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله".
هذه نماذج، ويوجد غيرها، لرجال ونساء كانوا من الصحابة، ومع ذلك فلم يكونوا معصومين، بل كانوا يقارفون الأخطاء، وكما أسلفت فإن عظمتهم كانت في أن أغلبهم كانوا ذوي حساسية للذنب، فإذا قارفوه سارعوا إلى التوبة، وكان لديهم من الحسنات ما يمحو تلك الذنوب التي لا يكاد يخلو منها بشر، وعظمة المجتمع كمجتمع كانت أن نسبة العصاة فيه كانت قليلة.
المشكلة التربوية التي نعاني منها أن البعض عندنا يرى أن المجتمع المثالي يجب أن يكون خاليًا من الأخطاء، ويفترض أن مجتمعنا - مجتمع الحركة الإسلامية – كذلك، ثم عندما يرى بعد احتكاكه بالناس أن مجتمعنا لا يخلو من هذه الأخطاء يصاب بصدمة تفقده الثقة بهذا المجتمع لافتراضه انه فقد المثالية التي يتصف بها، نعم إن مجتمعنا مجتمع مثالي، بكل ما في الكلمة من معنى، ولكنه ليس مجتمعًا ملائكيًا، هذه حقيقة يجب أن ندركها، ونربى عليها عناصرنا، ليعرفوا كيف يتعاملون مع الأخطاء التي يقعون فيها أو يواجهونها لدى الآخرين.
والحمد لله أولاً وآخرًا.
سجن النقب، قسم ب7، غرفة 26
13/6/2009

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف15 يوليو, 2010

    بارك الله الله فيك شيخ أبو خيري تطرقت لموضوع حساس و مهم

    ردحذف
  2. جميل جدا ...حقيقة نحن بحاجة ماسة الى تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة و لتى تفهم على غير الوجه المقصود منها أصلا،و قضية تحديد المفهوم اساس و عنوان اي موضوع يرجى له النجاح و التقدم و إلا فالأمر خطير و نذير شؤم.

    ردحذف

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...