أبو طارق وشموخ الصابرين
لقائي مع القائد الشهيد ميسرة أبو حمدية لقاء لن أنساه ما عشت، فهو لقاء
تشرفت فيه بالاجتماع مع رجل من النماذج النادرة في هذا العصر، مع رجل يقدم نموذجاً
للصبر والشموخ في زمن عزَّ فيه الشامخون.
كان ذلك قبل نحو شهر من الآن، في رحلة من رحلات بوسطة السجن، تلك الرحلة
التي يستشعر المسافر فيها حقًّا معنى عبارة (السفر قطعة من العذاب)، يومها صعدت
إلى باص البوسطة، وكالعادة مقيد اليدين والرجلين، وما أن دلفت إلى الزنزانة ذات
المقاعد الحديدية التي في الباص، ولا يستغربنّ أحدكم أن الباصات تحوي زنازين، فهو
الواقع الذي نعيشه ونشاهده نحن الأسرى، حتى وقعت عيني على جبلين شامخين وبطلين
مجهولين من أصدقائي الأعزاء وهما الأخ المجاهد جميل النتشة – أبو عاصم – عميد أسرى
حماس حالياً في السجون، فهو في الأسر منذ سنة 1992، وقد بقي له من محكوميته نحو
تسعة شهور، والأخ المجاهد مشهور الرجبي – أبو بهجت – المحكوم بالسجن 45 عامًا، مضى
منها نحو 8 سنوات فقط، وبعد أن صافحتهما وعانقتهما، والقيود لدي ولديهما تعوق من
إيفاء العناق والمصافحة حقهما الذي يفرضه الشوق، همس أبو عاصم في أذني مشيراً إلى
وجود الأخ المجاهد الكبير (ميسرة أبو حمدية) معهم في البوسطة، فالتفتُّ إلى حيث هو
لإلقاء السلام عليه، وقد كنت أسمع عنه كثيرًا من الاخوة الأسرى، وكانوا يثنون عليه
الثناء العاطر، ولم يكن قد حصل لي شرف الالتقاء به قبل ذلك اليوم.
كان أبو طارق – رحمه الله – يجلس على الكرسي الأول بجانب الباب إلى يمين
الداخل للزنزانة المتنقلة، فسلمت عليه، وقبلت رأسه، وجلست إلى جانبه، وعرفته
بنفسي، وكما هي العادة فقد دار بيننا الحديث الذي يدور بين الأسرى عندما يتعارفون،
فيه الاطمئنان على الأحوال، والسؤال عن الصحة، والتأكد هل بقي الأخ الذي تلاقيه في
السجن الذي تعرف أنه فيه أم أن الأيام نقلته إلى سجن آخر، ونقل سلامات الأسرى
الآخرين له، والدعاء المتبادل بالفرج من الله، والقبول والتثبيت، إلى آخر هذه
الأحاديث التي تخالف ما يتحدث به أهل الدنيا عندما يلتقون، فإننا ونحن في الأسر
نعيش في دنيا غير الدنيا التي يعرفها غالب الناس.
لقد كنت أسمع من الإخوة الذين كانوا يخرجون في (البوسطات) عن تردي الحالة
الصحية للأخ أبي طارق، فـ (البوسطات) تستخدم لتبادل الأخبار بين السجون المختلفة،
ومن الطبيعي أن تستمع الأخ العائد من البوسطة وهو يقدم تقريرًا إخباريًّا عما
سمعه: فلان انتقل من سجن كذا إلى سجن كذا، وفلان أفرج عنه، وفلان أصيب بمرض كذا،
وفلان أنهى دراسته الجامعية، وفلان تم تمديد اعتقاله، وفلان حكم بالسجن كذا وكذا،
وهكذا تنتقل الأخبار بين السجون المختلفة، فمن الطبيعي أن خبر مرض الأخ ميسرة كان
قد انتشر في السجون قبل ذلك بفترة، وخصوصًا أنه خرج عدة مرات في رحلة البوسطة
لإجراء الفحوصات في مستشفى سجن الرملة، وكان بعض إخواننا الخارجين من سجن النقب
يلتقونه، ولكن الرائي ليس كالسامع، لقد وجدت أن كل ما كنا نسمعه عن تردي الحالة
الصحية للأخ ميسرة – رحمه الله – لا يعبر عن الصورة الحقيقية لذلك، عندما جلست إلى
جانبه كان يبدو عليه الهزال الشديد، حتى أن وزنه لا يكاد يصل إلى 50 كيلوغرامًا،
بل إنه كان يضع يده على فخذه فتكاد يده تضم بين أصابعه فخذه كلها من شدة الهزال،
أما صوته فكان خافتًا لا يكاد يُسمع، حتى أني كنت أضع أذني قرب فمه لأسمع ما يقول،
ومع ذلك فالصوت يصل ضعيفًا خافتًا، وبعض الكلمات لا تكاد تفهم من ضعف الصوت، وقد
آثرت عدم مواصلة الحديث معه، لئلا أتعبه فرحلتنا طويلة، وسيكون هناك مجال للحديث
معه أكثر إن أتاحت ظروفه الصحية ذلك.
وصلنا بعد ساعتين سجن السبع حيث ننزل في العادة إلى محطة يتم فيها تبديل
(الشفت) في البوسطة، ويضعوننا في زنازين سيئة للغاية، نبقى فيها حتى الساعة الساسة
مساء، حيث موعد استئناف الرحلة الطويلة، وفي زنزانتنا تلك جاؤونا بوجبة الطعام
الوحيدة لذلك اليوم، والتي تتكون من بيض مسلوق، وبطاطا مسلوقة، ولم يكن أبو طارق
يستطيع الأكل إلا بمشقة شديدة، ولم يكن لدينا ماء، وكان لا يمكنه الأكل إلا بأن
يسيغ كل لقمة بشربة ماء بعدها، فصرخنا وصحنا حتى اضطر حراسنا لإحضار بعض الماء
ليتمكن أبو طارق من الأكل، وماذا كان كل ما أكله؟؟ بيضةٌ مسلوقة واحدة.
انتقلنا في البوسطة بعدها إلى (معبر الرملة)، الذي وصلناه نحو الساعة التاسعة
ليلًا، حيث نمضي ليلتنا وفي اليوم التالي يتم ترحيل كل أسير إلى حيث هو ذاهب، وقد
كنت ذاهبًا إلى المحكمة في (عوفر)، أما الأخ أبو طارق فقد كان ذاهبًا إلى مستشفى
خارجي – أي أنه لا يتبع مصلحة السجون – لإجراء فحوصات، وعندما يدخل الأسرى (معبر
الرملة) يتم توزيعهم في الغرف عشوائيًا، فيتم ملء الغرف تباعًا، ولذلك ليس
باختيارك أن تبيت ليلتك تلك مع من ترغب ممن يرافقونك، ولذلك لم يتح لي أن أكون
والأخ ميسرة في نفس الغرفة.
في اليوم التالي ذهبت إلى محكمتي في عوفر، وهم يبدؤون تجهيزنا بوضع القيود
في أيدينا ونقلنا إلى الأقفاص في المعبر عند الساعة الثالثة قبل أذان الفجر، ونبقى
في الأقفاص حتى الثامنة صباحًا، ثم ذهبنا إلى المحكمة، وعدنا منها إلى الرملة عند
الثامنة مساءً، فسألت عن الأخ ميسرة، فإذا به قد عاد من المستشفى عند الساعة
الرابعة عصرًا، وهو موجود في أحد الأقفاص حيث يتواجد معه فيه نحو ثلاثين أسيرًا
آخر، وكان كثير منهم للأسف يدخنون بلا مراعاة لظرف الأخ ميسرة الصحي، وكان الجو في
ذلك اليوم شديد البرودة، حتى في منطقة الرملة، وقد عانينا من شدة البرودة حتى بعد
وصولنا سجن السبع، فما بالكم بالحال التي كان عليها الأخ أبو طارق بوضعه الصحي
الذي كان فيه!!
انتقلنا من أقفاص (معبر الرملة)، وما أدراك ما أقفاص (معبر الرملة)؟، فهي
وحدها حكاية، لعلي أقصّها في يوم من الأيام، وكان ذلك عند الساعة الثانية عشرة
منتصف الليل، أي أن الأخ ميسرة قضى في تلك الأقفاص المعدة لتعذيب الأسرى وإذلالهم
ثماني ساعات مرهقات، انتقلنا إلى باص البوسطة مرة أخرى راحلين إلى (معبر سجن
السبع) حيث المفترض أن نبيت ليلتنا ليتم توزيعنا عائدين إلى السجون التي جئنا منها
مرة أخرى.
وصلنا سجن السبع عند الساعة الثالثة والنصف قبل الفجر، والأسير ما يكاد يصل
الغرفة هناك حتى يرتمي على البرش طالبا لاقتناص سويعات من الراحة بعد رحلة تمتد في
تلك المرحلة منها 24 ساعة تكون في أغلبها مقيدا في الباص أو محشورا في الأقفاص،
وكان لي شرف أن أرتب للأخ الكبير المجاهد ميسرة برشه، الذي كان لا يقوى على
ترتيبه، ثم استيقظنا بعد نحو ساعتين أنا وهو وأخ آخر لنؤدي صلاة الفجر في وقتها
بفضل الله وحده.
ومن هناك عاد كل منا إلى السجن الذي كان فيه، وفي أثناء ذلك اغتنمت الفرصة
للحديث مع الأخ أبي طارق، فأخبرني بمجريات رحلته إلى المستشفى، وعلمت منه أن ذهابه
إلى المستشفى كان لإجراء تصوير طبقي، فقد كان الأطباء لا يزالون يجرون له الفحوصات
لتحديد المرض الذي كان يعاني منه منذ فترة طويلة، وبالمناسبة فإنهم لم يشخصوا
المرض بأنه السرطان ولم يبدؤوا إعطاءه العلاج الكيماوي إلا بعد تلك الرحلة، يعني
قبل أقل من شهر على استشهاده.
في لقائنا ذاك، ورغم الحالة الصعبة التي كان فيها الأخ ميسرة، ورغم الآلام
التي كانت تنهش جسده – كما أخبرني – ورغم الإهمال الطبي الذي كان يعاني من آثاره
إلا أنه كان نموذجا للرجل المؤمن الصابر الراضي بقضاء الله، قال لي في حديثه: لقد
عزفت نفسي عن الدنيا وكل ما فيها، وكل من أريده منها لحظات من الهدوء والسكينة أعيشها
في ما تبقى لي من أيام.
لقد شعرت بالإيمان العميق الذي كان يعمر قلب هذا الرجل، ورأيت كيف يصبر بعض
الرجال صبر الجبال، وكيف يشمخ بعض الأبطال شموخ السحاب، وكيف يزهد بالدنيا من كانت
الدنيا في يده لو أراد، ميسرة أبو حمدية، ذلك الرجل الذي كان ضابطًا كبيرًا في
جهاز الأمن الوقائي، ولم يمنعه ذلك من أداء دوره الجهادي، والذي حكم بالسجن المؤبد
نتيجة لعمله مع حماس، ومع أنه لم يقض الله له أن يتم الإفراج عنه في صفقة وفاء
الأحرار، مع أن بقية أعضاء المجموعة التي عمل معها أفرج عنهم، فإنه رغم ذلك حول
رسميًّا انتماءه بعد تلك الصفقة وانتقل من صفوف فتح التي بدأ مسيرته فيه، إلى صفوف
حماس التي جاهد معها، وآثر أن يختم مسيرته تحت رايتها، وقال عن ذلك: "لم أرغب
بالتحويل رسميا من فتح إلى حماس قبل الصفقة لئلا يظن ظانّ أنني فعلت ذلك ليوضع
اسمي فيها، أما الآن فتحويلي ليس فيه شبهة رغبة دنيوية"، وهو موقف لا يصدر
إلا عن رجال عزّ وجودهم في هذه الأيام.
كانت تلك قصة السويعات التي عشتها مع الأخ العظيم، والرجل الكبير، ميسرة
أبو حمدية، الذي اختاره الله ليصطفيه شهيدًا عنده إن شاء الله، ليكون شاهدًا على
ظلم الاحتلال وأعوانه، وهي سويعات عظيمة لن أنساها ما حييت، وأسأل الله تعالى الذي
جمعني به في تلك الرحلة على غير ميعاد أن يجمعني وإياه وسائر إخواننا في جنان
النعيم في مقعد صدق إنه عزيز مقتدر.
رحمك الله يا أبا طارق، ورفع درجتك في عليين من النبيين والشهداء
والصالحين، وعوض الأمة عن فقدك خيرًا.
رحمه الله تعالى
ردحذف