أحد المشاهد اللافتة للنظر في قصص معركة بدر، وما أكثرها! هو ما روته كتب السيرة عن طلب الرسول من صحابته عدم قتل بعض المشاركين في جيش المشركين، فقد روى ابن هشام في سيرته أن النبي قال لأصحابه يومئذ:"من لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله"
فلقيه المجذر بن زياد البلوي رضي الله عنه فقال لأبي البختري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك.
ومع أبي البختري زميل له قد خرج معه من مكة، قال: وزميلي؟
فقال له المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك.
فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة.
فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال يرتجز
لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله
فاقتتلا، فقتله المجذر بن زياد، ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.
هذا الموقف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن درسًا يجب علينا أن نقف عنده، وحتى نفهم الدرس يجب أن نعرف لماذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم قتل أبي البختري وعدد آخر من رجالات قريش المشركين.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.
ويعتبر موقف أبي البختري من صحيفة مقاطعة المسلمين هو الموقف الأساس الذي استحق به هذه الحماية، وهو موقف ذكره له التاريخ وسجله له ولمن كانوا معه بلسان الشكر، وملخص الموقف أن عددًا من رجالات قريش المشركين ساءهم الحصار الظالم الذي فرضته قريش على المسلمين في شعب أبي طالب، فاجتمعوا واتفقوا على أن يعملوا على نقض الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على أن تقاطع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكان هؤلاء هم: هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وكلهم كانوا من المشركين، فاتفقوا على ذلك، ووضعوا خطة لكسر الحصار، فأصبح زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد-: كذبت، والله لا تشق.
فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حيث كتبت.
وقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.
وقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان.
وكانت هذه الحركة التي قاموا بها أحد العوامل التي بسببها تم فك الحصار عن المسلمين بعد استمراره ثلاث سنوات.
ونلاحظ أن هؤلاء ورغم كونهم مشركين كانت لهم مواقف إيجابية من المسلمين، لعل الدافع لها كان الرحمة الإنسانية في قلوب بعض الناس، أو الأنفة من الظلم والجور، ليس مهماً لنا ما الدافع هنا، ولكن المهم ماذا كانت نتيجة عملهم.
ومما يذكر عما قام به بعض هؤلاء أن هشام بن عمرو كان يأتي بالبعير ليلاً، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب، وقد أوقره طعاما، حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره برا، فيفعل به مثل ذلك.
ولم يكن حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم لمعروف هؤلاء مقتصرًا على موقفه من أبي البختري، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر:"لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له".
وكان المطعم قد مات في مكة على شركه قبل معركة بدر بمدة يسيرة.
فانظر إلى هذا الوفاء من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مستعدًا أن يطلق سراح كل أسرى المشركين في بدر إكرامًا للمطعم بن عدي لو كان حيا.
وكان المطعم قد وقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً يسجل له عندما رجع المصطفى صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد صده أهلها وآذوه، فخشي من قريش بعد سماعها ذلك، وكان عمه أبو طالب قد مات، فدخل مكة في جوار المطعم بن عدي، الذي خرج بنفسه وأولاده وإخوته وقد تقلدوا أسلحتهم وشكلوا حلقة حول الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخلوه مكة في حمايتهم مبدين استعدادهم للموت دفاعًا عنه، وهم مشركون.
وعندما مات المطعم، وهو قد مات على شركه كما قلنا رثاه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسانُ بن ثابت رضي الله عنه بقصيدة قال فيها:
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي / بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما
الدرس المهم أيها الإخوة الذي نريد استيعابه أن المسلمين هم أهل الوفاء، وأن من وقف معهم موقفًا إيجابياً وهم في محنتهم، حتى لو كان منم أهل الشرك فلن ينسوا له ذلك، وحتى في الآخرة فإن الله لن يضيع عمل هؤلاء الذي عملوه في الدنيا، وإلا فلماذا جعل الله سبحانه النار دركات كما جعل الجنة درجات، ولماذا كان أبو طالب أخف أهل النار عذابًا، ألأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! لا والله، فقد كان أبو لهب عمه أيضًا، وإنما استحق هذا التخفيف عنه لمواقفه في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مواقف دفعه إليها حميته وعصبيته.
وهناك مسألة أريد أن أشير إليها نلحظها من موقف أبي البختري عندما أخبره الصحابي المجذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، لاحظوا أن أول ما خطر بباله هو مصير زميله الذي كان معه، فلما رفض الصحابي أن يعطي الأمان لزميله أَنِفَ أبو البختري من أن يسلم رفيقه للقتل وينجو بنفسه، ووجد أن ذلك عيب لا ينبغي أن يقع فيه، فضحى بنفسه وقاتل حتى قتل، لئلا تقول نساء مكة أنه ترك زميله حرصًا على الحياة، وهذا الموقف يأتي من رجل مشرك، من الذين أخبرنا الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقولون:"إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" [المؤمنون٣٧]، فهو لم يكن يؤمن بالبعث بعد الموت، ولا بالجنة التي تدفع المؤمنين بها للرضى بالموت طمعًا بما ينتظرهم من جزاء، ولكن هذا الموقف من أبي البختري يدل على نفسية فيها عزة تأنف الذل وترفضه، وتتحرج من العار ومساوئ الأخلاق، ولعل هذا ما كان يدفعه للدفاع عن الرسول في مكة، ولذلك استحق ذلك التنويه من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
نريد أيها الأحباب أن نتعلم أنه لا يجوز أن نعامل من وقف معنا وساعدنا كمعاملة من حاربنا، حتى لو كان الطرفان كافرَيْن، وهذا ما علمنا إياه ربنا سبحانه وتعالى في قوله:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة 8-9].
أسأل الله أن يرزقنا الفقه في دينه.