2010/08/20

ثمامة ودرس في المبادرة


روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ ‏خَيْلاً قِبَلَ ‏ ‏نَجْدٍ ‏ ‏فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ ‏ ‏بَنِي حَنِيفَةَ ‏يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ‏فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏فَقَالَ ‏مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ‏ ‏فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ‏ ‏قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ‏ ‏ ثُمَامَةُ ‏ ‏فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ ‏ ‏فَانْطَلَقَ إِلَى ‏ ‏نَجْلٍ ‏ ‏قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ ‏ ‏مُحَمَّدًا ‏ ‏رَسُولُ اللَّهِ يَا ‏ ‏مُحَمَّدُ ‏ ‏وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ ‏ ‏مَكَّةَ ‏ ‏قَالَ لَهُ قَائِلٌ ‏ ‏صَبَوْتَ ‏ ‏قَالَ لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ ‏ ‏مُحَمَّدٍ ‏ ‏رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ ‏ ‏الْيَمَامَةِ ‏ ‏حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ ‏ ‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سنقف وقفة مع مسألة واحدة في قصة ثمامة رضي اله عنه فيها درس عظيم يجب أن نتعلمه من هذه القصة.
أنظروا إلى موقف ثمامة الذي انتقل إليه خلال وقت قصير منذ أن دخل في الإسلام:
كان ثمامة رضي الله عنه ذاهبًا إلى مكة لأداء العمرة عندما وقع في أسر المسلمين، ثم أسلم، ففهم فورًا أن من واجبات التزامه بهذا الدين أن ينقاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم انقيادًا تامًّا وأن يكون جنديًا طائعًا عنده، ولذلك لم يكمل طريقه إلى مكة لأداء العمرة إلا بعد أن استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعندما وصل مكة، وكان خبر إسلامه قد سبقه إليها، فهو لم يكن من الناس المغمورين، بل كان سيدًا من سادات قبيلته بني حنيفة، ففي رواية مسند أحمد للحديث قال أن الخيل جاءت "برجل من بنى حنيفة، ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة"، وكان المشركون يترصدون أخبار من يدخل في الإسلام، فعيروه بإسلامه، وقالوا له :"صبوت"، أي تركت دين آبائك وأجدادك، ونحن نعلم مقدار تمسك أهل الجاهلية بما كان عليه آباؤهم حتى لو كانوا يعلمون أنه الباطل، وقد ذكر الله تعالى عندهم أنهم كانوا يحتجون على تمسكهم بما هم عليه من عبادة الأوثان بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك:"وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ" [الزخرف ٢٣].
فتعيير العربي بأنه ترك ما كان عليه آباؤه كان أحد أساليبهم في الضغط عليهم لردهم عن اتباع الإسلام، المهم ماذا كان موقف ثمامة رضي الله عنه من ذلك؟!
أنظروا ما الموقف الذي اتخذه الصحابي الجليل ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، لقد قال لهم:"ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".
نعم، فمكة كما نعلم أرضٌ غير ذات زرع، وقوتها وميرتها تأتيها من بقية أماكن الجزيرة العربية، وكان القمح يأتيهم من اليمامة، ففي إحدى روايات الحديث قال الراوي عن اليمامة:" وكانت ريف مكة"، واليمامة موطن قبيلة بني حنيفة والتي كان ثمامة سيدًا من ساداتها، فإذا قرر ثمامة أن يمنع عنهم الميرة ويقطع طرق تزويدهم بالقمح فهو يحاصرهم حصارًا اقتصاديًا له أثر كبير عليهم.
وقد أخرج البيهقي الحديث في سننه الكبرى وجاء فيه:"وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
لقد وجد ثمامة رضي الله عنه نفسه في موقع يستطيع من خلاله خدمة دينه، والدفاع عن نبيه، وإضعاف المشركين، فقرر فرض هذا الحصار الاقتصادي، وهذا الموقف الذي أخذه ثمامة، أن يبادر ويفرض حصارًا اقتصاديًا على مشركي مكة درسٌ يجب أن نتعلم منه، فكثيرًا ما يجد الواحد منا نفسه في موضع يستطيع الدفاع فيه عن دينه أو عن إخوانه المسلمين، لربما بكلمة أحيانًا لو قالها لخففت البلاء عن أحد إخوانه، أو بنصيحة لو أزجاها لمنعت أخاً له من الوقوع في المعصية، فما الذي يمنعنا من ذلك؟؟!
للأسف لقد تربينا على "الأنانية" و"السلبية" وأن لا نفكر بأكثر من ذواتنا، قلما تجد عند الناس روح المبادرة والإيجابية، ترى أحدهم ينتقد الحكام وظلمهم ويقول يجب أن يتم تغيير هؤلاء فإذا دعوته للانضمام إلى جماعة تسعى لتغييرهم وإقامة حكم إسلامي وجدته يهرب، فهو يريد أن يتم التغيير ولكنه لا يريد أن يبذل جهدًا في ذلك، وترى آخر يقترح عندما يحدث حدث ما كمجزرة في فلسطين أن يخرج الناس للاحتجاج، وعندما تقام مسيرة لأجل ذلك لا يفكر مجرد تفكير بالمشاركة فيها.
إننا بحاجة إلى أن نخلع رداء السلبية هذا، وأن نصبح مثل الصحابي الجليل ثمامة رضي الله عنه في إيجابيته ومبادرته.
التغيير لا يصنعه إلا المبادرون، الذين تحترق قلوبهم عندما يرون الضلال والاعوجاج فيسارعون لتقديم ما يستطيعون، ولننظر إلى مخلوق آخر من المبادرين الذين ساهموا في تغيير الواقع حولهم، ذلك هو الهدهد الذي خلد الله تعالى ذكره في سورة النمل، فهو قد رأى قوم سبأ يعبدون الشمس من دون الله فهاله ذلك، وسارع إلى نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم قائلاً:"أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ."[النمل22-26].
لم ينتظر الهدهد أوامر من أحد أو حتى سؤالاً من سليمان صلى الله عليه وسلم، وإنما شعر عندما رأى القوم على الشرك أنه يجب أن يبادر ويقوم بخطوة، وكانت الخطوة التي يقدر عليها إبلاغ نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم بذلك، فأدت مبادرته إلى دخول الملكة وقومها في الإسلام.
ومثل ذلك موقف الجن الذين قص الله تعالى علينا قصتهم في سورة الأحقاف، فقال:"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ" [الأحقاف٢٩]. فنلاحظ في الآية أن الأحداث جاء تعقيبها بحرف الفاء الذي يفيد الفورية، فهم فور أن استمعوا إلى القرآن وأدركوا صدقه، وفور أن قضيت قراءته " وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ" لم ينتظروا، بل شعروا أن واجبهم هو التحرك الإيجابي المبادر لإنذار قومهم.
وكما قلتُ فالتغيير لا يصنعه إلا المبادرون، ولنقف لحظة مع الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله عندما دخل امتحان القَبول في دار العلوم وسأله الممتحنون عن أكثر بيت أعجبه من المعلقات العشر التي كان يحفظها، فكان جوابه أنه بيت طرفة بن العبد الذي يقول فيه:
إذا القوم قالوا: من فتًى؟ خلت أنني عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
وكان طوال حياته رحمه الله سائرًا على هذا النهج، يخال أنه لا يجب حمل هم الأمة إلا عليه، ولم يكن ينتظر غيره ليفعل ذلك، فكان أن ترك هذا الأثر العظيم في الأمة وأحدث فيها التغيير الذي لا يزال مستمراً وسيصل بمشيئة الله حتى يحقق أهدافه.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا روح المبادرة وأن يجعلنا من عباده الإيجابيين الفاعلين.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف20 أغسطس, 2010

    دمت ذخراً للاسلام و المسلمين أبا خير ، بارك الله فيك و في قلمك المعطاء

    ردحذف

بعد انحسار العاصفة

الآن وقد هدأت عاصفة الجدل حول الماراثون (المختلط) الذي نظمته جمعية تنظيم وحماية الأسرة في الخليل، ذلك الماراثون الذي استفز أهل هذه المدين...